كان آخر تعبير وطني صدر عن زعيم الأمة «من أجل مصر وقعت معاهدة 36 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها».. وكان مصطفي النحاس رئيس حكومة الوفد الخامسة التي أقيلت جميعها رغم حصولها علي الأغلبية الشعبية. كان مصطفي النحاس قد أنتوي العمل علي إجلاء القوات البريطانية عن مصر رضاء أو نضالاً، واستغرقت المفاوضات معهم 15 شهراً، وحينما لم تجد المفاوضات قرر في سريرته اتخاذ كافة الوسائل لإرغام الإنجليز علي الرحيل، وكان عضده في ذلك مهندس سياسة مصر الخارجية وزير الخارجية الدكتور محمد صلاح الدين. وبحلول 8 أكتوبر عام 1951 كان قد حدد خطته ووسائل تنفيذها في الكتمان الشديد، ويوم التنفيذ كلف سراً عضو الوفد والوزارة الأستاذ إبراهيم فرج بمهمة لا يبوح بها لأحد غيره بأن يبلغ رئيس مجلسي البرلمان «النواب والشيوخ» بالبهو الفرعوني حالاً، وفي ساعة محددة تماماً لا يعلمها غيره لسبب لا يعلمه سواه. وقد التزم الزعيم الحذر الشديد حتي لا يصل الأمر إلي الملك فاروق أو أحزاب الأقلية أو الإنجليز، فيتخذ قراراً في التو بإقالة الزعيم النحاس كما حدث في وزاراته الخمس السابقة منذ إقالة حكومته الأولي بعد شهرين من الحكم، ولم يخش مصطفي النحاس الإقالة إلا بعد تنفيذ سياسته الوطنية. وفي ذات الوقت قام الزعيم النحاس بدعوة الملك فاروق لزيارة عاجلة بمكتبه بمبني رئاسة مجلس الوزراء، وبعد حضوره استأذنه في لحظة قصيرة قائلاً له: «جلالتك سيستمع لصوتي حالاً وسأحضر للتو».. وأغلق عليه الباب وسلم مفتاحه لأحد الحراس، واتخذ النحاس هذه الحيطة ليتجنب أي مفاجآت يحتمل أن يتخذها الملك إذا حضر المؤتمر في البهو الفرعوني. وانتقل الزعيم في الحال وبحذر تام إلي اجتماع المجلسين معاً وفاجأهم بإلغاء لم يتوقعه أو يتصوره إنسان داخل أو خارج مصر، جاء بعبارته التاريخية - محتوي ونصاً - وكأنها محل تقديس قائلاً: «من أجل مصر وقعت معاهدة 36 ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها».. فلم يسع السامعون، وفديين ومعارضين وغيرهم من أعضاء المجلسين أو من أعضاء الشعب، فكان الترحيب والتهليل والهتاف، بالموافقة طبعاً وذهول الرضا الإيجابي في صفوف كافة الجماهير، بل والمستمعين من غير المصريين. وقام عضو الوزارة والوفد الأستاذ عبدالفتاح حسن باستدعاء 90 ألف عامل وموظف مصري ملحقين بالعمل لدي القوات البريطانية في القنال، وألحقوا بلا إبطاء بالوظائف المناسبة المصرية، كما منعت السلطات المصرية حركة الإنجليز وتنقلاتهم في مدن القنال وغيرها، كما منع عنهم الغذاء أو التعامل أو الوصول إلي أي مكان، ولن يتصور أحد انبعاث الرضا والطمأنينة والإحساس المصري بالقومية والوطنية. وشملت الاجتماعات والاحتفالات والمظاهرات الدائمة بالقاهرة ومدن القنال وغيرها إلي أن حل يوم 14 نوفمبر عام 1951 وهو يوم ذكري قيام ثورة مصر الأساسية عام 18/1919.. فألقي زعيم الأمة خطابه السنوي في هذا العيد وسارت حشد المسيرات والمظاهرات إلي ميدان الإسماعيلية - التحرير اليوم - يتقدمه زعيم الأمة والحكومة مصطفي النحاس ورجاله ووزراؤه. وخلق الجهاد الفعلي الحركة ضد القوات البريطانية وبدأت كتائب التحرير تستعد ووزعت عليهم الدولة ما لديها من سلاح أبيض وناري بعد تدريبهم.. وأخذت حركة الكفاح المسلح تنتظم وتنتشر، كما شاركت مجاميع وفرق وأفراد من القوات المسلحة المصرية تنتقل إلي مدن القنال لمواجهة القوات البريطانية. كما أغلقت عليهم قناة السويس أو المرور بها مما دفعهم إلي نقل غذاء قواتهم بالطائرة، هذا إذا ما وجدوا من يبيع لهم الغذاء، حتي المتواضعين من الباعة المصريين جملة أو قطاعي. وكانت القوات البريطانية في وضع صعب وقلق ومهين، فكانوا يلتحمون حتي بالقري والأحياء المتواضعة في مدن القنال، ومنا ومن آبائنا من يذكر وحشية القوات البريطانية التي أبادت قرية بمن فيها واسمها «كفر عبده» التي كرم وخلد «الزعيم» اسمها بمدينة الإسكندرية» وأطلقها علي أفخم وأحدث الأحياء برمل الإسكندرية وأعني «كفر عبده». أما مصطفي النحاس فكان الرد الملكي الإنجليزي الرجعي بتنظيمهم حرق العاصمة القاهرة المفتعل ليحرقوا به وزارة الحكم الوطني وزعيم الأمة مصطفي النحاس يوم 25 يناير عام 1952 الذي يحتفل به وكأنه فقط يوم للشرطة الذي اعتدت فيه القوات البريطانية علي ضباط الشرطة المصريين في مدن القنال. عبدالمحسن حمودة