لم تسلم أسرتها المكونة من 14 أخا وأختا من تقلبات الزمان، فقررت أن تتحدى ظروف الحياة القاسية وهى لم تزل فى الثامنة من عمرها، لتطوى بذلك صفحات الطفولة مبكراً، بمهنة شاقة تعلمتها على يد والدها الذى أفنى سنوات عمره ال60 فيها. عاشت «مى» بنت العشرين عاماً فى ليبيا مع أسرتها حياة هانئة، قبل أن يتعرض والدها لبعض المشكلات الصحية، التى جعلته غير قادر على ممارسة هذه المهنة الشاقة، فاضطروا للعودة إلى مصر وهى فى السابعة من عمرها: «وأنا عندى 6 سنين بابا كان بياخدنى معاه الشغل فى ليبيا، وكنت باشوفه بيعمل ايه، ولما تعب ونزلنا مصر، بقيت أروح اساعده فى بعض الشغلانات، لحد ما بقى يعتمد عليا فى كل حاجة، ودلوقتى بقيت اقدر أشيل شغل لوحدى». اختارت مى جمال، حرفة كانت حتى الأمس القريب حكراً على الرجال فقط، وهى «السباكة»، وبرغم اقرارها بأن هذه المهنة غير ملائمة للمرأة إلا أن الظروف المادية الصعبة زادتها اصراراً على مواصلة العمل فيها: «نظرة المجتمع مش هتأكلنا ولا تشربنا، المهم انى أقدر أساعد أبويا وأمى واخواتى علشان نلاقى ناكل، بدل ما نمد ايدينا لحد». تعيش الفتاة العشرينية مع عائلتها فى مدينة العبور، لكن أكثر ما يؤرق مضاجعهم ايجار الشقة المرتفع: «ايجار الشقة وصل 800 جنيه، وصاحبة الشقة عايزة تزوده علينا من أول الشهر الجاى يا إما نسيب البيت، لدرجة ان أمى نزلت اشتغلت على فرش ملابس فى الشارع علشان تساعد فى المصاريف، لأن ليا اخوات صغيرين لسه فى المدارس». وبالرغم من مهارتها وإتقانها «السباكة» إلا انها حتى الآن لا تذهب إلى أى عمل إلا بصحبة أبيها: «ما بروحش أى شغلانة إلا وبابا معايا، لأنى ما بحسش بالأمان والراحة غير فى وجوده، حتى لو هايقعد جانبى ما يعملش أى حاجة». حُرمت «مي» من التعليم فى سن مبكرة، لكن حلم استكماله لم يغب عنها لحظة واحدة: «نفسى أكمل تعليمى زى باقى البنات، لكن ظروفنا الصعبة مش مشجعانى على ده، وكل ما بقعد لوحدى بفضل أسترجع اللى اتعلمته وأنا صغيرة علشان ما يتنسيش». وحول أهم الصعاب التى قابلتها فى بداية عملها: «أكتر شىء كان بيعملى احباط إن ساعات الزباين لما كانوا يشوفونى يستغربوا ويرفضوا إنى أعملهم شغل علشان أنا بنت، وفضلت على كده فترة، ومع الوقت اتعرفت وكسبت ثقة الزباين». تمتلك «مي» العديد من المهارات الأخرى بخلاف «السباكة» مثل الخياطة وتركيب البلاط وإصلاح الكهرباء: «الحمد لله ما فيش صنايعى يدخل البيت وأنا موجودة، وأى حاجة بحاول أسد فيها». «نفسى فى محل أدوات صحية أبيع فيه الحاجة للناس بالقسط علشان أساعد الغلابة اللى زيى».. حلم تراه «مي» بعيد المنال، لكنها فى الوقت نفسه لن تتنازل عن تحقيقه: «عارفة ان حلمى ده صعب لكنى هافضل اشتغل لحد ما أحققه، وما فيش حاجة بعيد على ربنا».