تتبع الثقافة في العراق السياسة، والسياسة في هذا البلد لا يمكن التكهن بها حتى في الآماد القصيرة لأن هذه السياسة لا تنتج عن سياسيين، بل عن مجموعة من الرجال والنساء الذين جاءت بهم الأقدار في ظروف تاريخية أقل ما يقال عنها إنها عجيبة. مشاريع ثقافية كثيرة يعلن عنها في أوقات متفرقة لكنها لا ترى النور لأن وقت موافقة الجهات الحكومية عليها يتغير بسبب تغير الموقف السياسي. كل شيء مؤجل إلى أجل غير مسمى. أحد أكبر المشاريع الثقافية التي كان ينبغي أن تنفذ في الأشهر القليلة المقبلة هو مشروع "النجف عاصمة للثقافة الإسلامية" لكنه أُجّل لسبب أو إشاعة تقول إن وكيل وزارة الثقافة الأقدم جابر الجابري ذهب إلى المرجعية الشيعية وأخبرها أن هذا المهرجان سينطوي على موسيقى وغناء "ودق ورقص" كما يعبر العراقيون، وبالتالي فإن المهرجان سيسيء إلى المدينة المقدسة. لم يُلغ المشروع ولكن، لا أحد يعرف إن كان سينفذ في يوم ما. غير أن رئاسة الوزراء طلبت من وكيل الوزير تقديم استقالته وهذا كل شيء. الكثيرون من الإعلاميين يقولون إن هناك صفقات مشبوهة اكتشفت وراء تأجيل هذا المشروع خصوصاً أن المبلغ الذي رصد لهذا المشروع وصل إلى نصف مليار دولار. عن بغداد عاصمة للثقافة العربية يتحدث المسئولون في وزارة الثقافة بانزعاج كبير لأنهم يشعرون باليأس بسبب كون الموازنة المرصودة لهذا الحدث الكبير مخزية في تقديرهم. وإذا قدّمت بعض المقترحات للمدير العام جمال العتابي حول نشاطات يمكن أن تقوم بها دائرة الفنون التشكيلية لهذا الحدث، يقول بسرعة: "أرجوك توقف قبل أن يتوقف قلبى"، ويضيف: "لا تذهب إلى السيد المستشار لتحدثه بهذا الحديث لأنني أخشى أن يتوقف قلبه". لجنة الخبراء المشرفة على هذا الملف تشعر بالحرج من أن يكون هذا الحدث إخفاقاً يضاف إلى الإخفاقات التي تعيشها بغداد. والأسباب كما يعترفون هي السياسة غير المستقرة في وادي الرافدين بسبب التدخلات الإقليمية التي تثير النعرات الطائفية التي تتبناها دول الجوار كلما تقدم العراق نحو الاستقرار. وزير الثقافة سعدون الدليمي صرح في أكثر من مناسبة أن موازنة الوزارة لا تسمح بإقامة أية نشاطات كبيرة، وهو محق في ذلك لأن الموازنة المخصصة للوزارة لا تكاد تكفي رواتب الموظفين، فكيف بها وهي تقيم مشروعاً مثل هذا غير مدعوم، من الحكومة ولا من الدول التي غزت العراق وتعهدت بالمساهمة في إعمار بناه التحتية؟! دار الأوبرا الكبيرة التي تسعى وزارة الثقافة إلى تشييدها من أجل بغداد عاصمة للثقافة العربية اصطدمت بنقابة الفنانين التي تقع ضمن مساحة البناء المخصصة لهذه الدار، وبالتالي على النقابة أن تجد مكاناً آخر لكي تنتقل إليه قبل البدء بتنفيذ المشروع، خصوصاً أن نقابة الفنانين لا تملك شيئاً يذكر يمكن أن يكون بديلاً لإخلائها المكان. هذه المشكلة ستعطل عمل النقابة في المرحلة المقبلة وتعرقل مشاريعها المعدة خصيصاً لبغداد عاصمة للثقافة العراقية. في "المؤسسة العامة للسينما والمسرح" ينشط الكثير من المخرجين والممثلين على تمارين لتقديم أعمال مسرحية للموسم المقبل، لكنهم لا يعرفون متى ستقدم هذه الأعمال وأين ستعرض وهل ستشارك في المهرجانات العربية أم لا. لكنهم يعملون ويجتهدون في أن تتحرر الثقافة من السياسة بسرعة وتقدم أعمالهم محلياً وعربياً وحتى دولياً. فنانون شباب وكهول لا يفقدون الأمل ببلدهم الذي خرج من مصائب أكبر من التي يمرون بها الآن ويراهنون على المستقبل. وفي بادرة لافتة أزيح الستار عن أعمال نحتية ضخمة للنحات الراحل محمد غني حكمت زينت ساحات بغداد مستلهمة التاريخ وقصص "ألف ليلة وليلة" من مثل الفانوس السحري الذي نصب أمام قاعة المسرح الوطني في مدينة الكرادة. أما نصب بغداد الذي أقيم في ساحة الأندلس فيمثل امرأة عراقية شامخة الرأس مع ابتسامة واثقة وثديين كبيرين دلالة على الخصوبة. لكن الغريب أن هذا النصب الجميل يرتفع على مسافة عشرة أمتار أو أكثر بحيث لا يمكن الناظر أن يتأمله عن قرب وبالتالي لا يستطيع أن يرى التفاصيل الصغيرة فيه. لا تزال الثقافة العراقية متوعكة ولم تستطع مع الأسف أن تتخلص نهائياً من آثار الديكتاتورية وإرثها البغيض. أية ثقافة تتعرض لما تعرضت له الثقافة العراقية تعتريها أمراض لا يمكن الخلاص منها في فترة قصيرة. الثقافة الألمانية على رغم عظمتها وعمقها احتاجت وقتاً طويلاً كي تتعافى من ديكتاتورية هتلر، فقد حصلت انشقاقات كثيرة وتخوين ومنابذات كما حصل ويحصل في العراق حتى هذه اللحظة. ولعل بناء أية ثقافة معينة يتطلب بناء مجتمع جديد من خلال التسامح ونبذ العنف والمصالحة المبنية على تكافؤ الفرص وبالتأكيد مع وجود الحرية التي من دونها لا يمكن بناء أية ثقافة. ما زال بعض المثقفين العراقيين يتحدث حتى هذه اللحظة عن أدب الخارج وأدب الداخل مثلاً لكنه لم يحلل هذه المشكلة في شكل دقيق ولم يفكك الأسباب التي حولتها إلى ظاهرة، لذلك يمكن إثارة هذه المشكلة بين وقت وآخر. إن مثيري هذه المشكلة هم من يريدون شق صف وحدة الثقافة العراقية. إذاً، أمام بغداد الكثير مما يجب القيام به في هذه السنة وفي السنة المقبلة، قمة عربية حاسمة، مهرجان النجف عاصمة للثقافة الإسلامية وبغداد عاصمة للثقافة العربية... فهل ستتنازل السياسة هذه المرة من أجل بغداد وثقافتها التي غيبت طيلة أكثر من نصف قرن؟.