إذا كان الظمأ إلى الماء يدل على وجود الماء، فكذلك الظمأ إلى العدل لابد أنه يدل على وجود العدل، فعليك بالعدلِ، هكذا تقول الحكمة، ومن هذا المنطق كانت نصيحة والده، مراعاة العدل، وحب الناس كان المحرك الرئيسى لوصول الرجل إلى غايته. عدم الرضا عن النفس ليس لحاجة، إلا لتحقيق الأفضل، يمتلك القدرة التحليلية والتركيز والمعرفة التى تمنحه قوة الملاحظة، فهو محدد لا يخرج عن الإطار إلا فى أضيق الحدود، ولا يهوى التفاصيل، مغامر للدرجة التى جعلته يفرط فى وظيفته الميرى، رغبة فى الابتكار وتحقيق الذات. محمود عماد الدين العضو المنتدب لشركة «الحرية» للأوراق المالية نشأته فى أسرة تربوية، غرست بداخله مجموعة من القيم والمبادئ، زادت محبته، تعلم من والدته ان الابتسامة فى وجه الآخرين أقصر الطرق الى القلوب، وأن العطاء رصيد دائم لا ينفد أبدا، لم يكن الفتى المدلل رغم انه الابن الوحيد، ولكن تحمل على عاتقه المسئولية ونجح فى ذلك. على بعد أمتار من مبنى البورصة بشارع الشريفين، وفى أحد المبانى المصمم على الطراز المعمارى الاوروبى، وبالطابق الرابع، لا تسمع إلا صوت الأقدام، الجميع يعمل فى صمت، ربما لطبيعة العمل فى سوق المال التى لا تتطلب سوى التركيز. مكتبه البسيط يحتوى على شاشة لمتابعة حركة الأسهم بالبورصة، وعدد من ملفات التحليل، جلسنا وبدأ الرجل يتصفح شاشة الاسهم سريعا قبل أن يبادرنى قائلا «دى كانت تبقى مصيبة، لو استمر الاخوان فى الحكم، باعتبارها الفترة التى شعرت بمخاوف على الدولة فى ظل وجود جماعة ليس لديهم اى خبرة بإدارة الملفات، لكن كان شعاع الامل بثورة 30 يونيه». بدت على ملامح الرجل حالة من الاطمئنان حينما راح يحلل المشهد الاقتصادي، فى ظل مؤشرات تشير الى تراجع قيمة العجز فى الميزان التجارى الى 1.92 مليار دولار بنسبة انخفاض قدرها 52.0٪، وارتفاع قيمة الصادرات بنسبة 8.5٪، وانخفاض قيمة الواردات بنسبة 32.6٪، وبلغت3.97 مليار دولار، وكذلك ارتفاع تحويلات المصريين بنسبة11%، وكلها دلائل تشير الى التفاؤل، بأن الاقتصاد يسير فى المسار الصحيح. العلم والتعليم من الوصايا التى سار عليها، لارتباطها بالوصول الى القمة، والرجل لديه مؤشرات ومعطيات بالأفضل للاقتصاد مع الطفرة الكبيرة التى تشهدها الساحة من خلال المشروعات القومية العملاقة، والسير بخطى ثابتة فى خطط الاستكشافات البترولية التى سوف يجنى ثمارها قريبا، وتوفير العملة التى تسببت فى حالة ارتباك شديد قبل قرار التعويم. أقاطعه قائلاً: إذن الدولة ظلت سنوات تساند وتدعم العملة،مما تسبب فى استنزاف موارد الدولة. يجيبنى قائلاً: «نعم تأخرت الدولة كثيراً فى عملية التعويم، والأنسب كان قبل الثورة بسنوات لهذا القرار، فى ظل احتياط أجنبى قوى، وعلاقات قوية مع العديد من الدول، كانت سوف تحفف من آثار الصدمة، إلا أن الحكومة أتخذت موقف المدافع عن العملة، على غير قيمتها الحقيقية، مما انعكس سلبياً بعد ذلك، ووصلت إلى المشهد الحالى والمبالغ فيه». إذن ماذا ترى العلاج لعدم تكرار الأزمة؟ - يرد قائلاً: «لا سبيل إلا من خلال الدعم النقدى، الذى لو تم تطبيقه لاختلف الأمر، خاصة أن التجربة أثبتت أن الفساد تكشف من خلال الدعم السلعى الذى لا يصل إلى مستحقيه». الاصرار والعزيمة والدقة والملاحظة رباعى يميز شخصية الرجل، لذا عندما يتحدث عن تخفيض العملة يتبنى سياسة الامر الواقع، والصدمة التى لم يكن أمام الحكومة بديل عنها فى ظل وقت لم يعد الاقتصاد لديه قدرة على تحمل التخفيض التدريجى، للعملة الوطنية، نتيجة عدم وجود إنتاج حقيقى وموارد فقدت بصورة كبيرة بعد تعرض السياحة الى التراجع، وبذلك كانت الصدمة بقرار التعويم، الذى يدفع فاتورته رجل الشارع والطبقة المتوسطى. لا يزال ملف السياسة المالية الشغل الشاغل للمراقبين فى ظل الضرائب المتكررة، دون تحقيق عدالة التوزيع الضريبي، فى ظل وجود اقتصاد غير رسمى يحقق مكاسب دون سداد التزاماته، وفى هذا الصدد يتطلب الامر اجراءات تحفيزية وتشجيعة لحصر أنشطة القطاع، والحصول على الضريبة، خاصة ان الاقتصاد الرسمى يمثل 50% من القطاع الرسمى. شديد الحذر، كل كلمة لها حساب، يعتبر انه من السابق لأوانه حسم الجدل الواسع بين السياسة المالية والنقدية، بالتكامل او التعارض، حيث ان مثل هذه الامور تتطلب وضوح الرؤية، رغم عملية رفع سعر الفائدة لضرب الاستثمار بسبب ارتفاع التكلفة». رسمت المغامرة للرجل مسار النجاح، عندما تخلى عن وظيفته الميرى، باحثا عن الابداع، ليكون شغله الشاغل مواجهة التضخم، وعلاج مشاكل القطاع غير الرسمى. يظل ملف الاستثمار مثارًا للجدل بين الخبراء، ومدى امكانية الأفضل للمستثمر القوانين ام بيئة الاستثمار، لكن ل«عماد الدين» وجهة نظر مخالفة فى هذا الصدد، حيث تشغله اعادة النظر فى القوانين وصياغتها من جديد، بما يتماشى ويتلاءم مع مستجدات الاستثمار، خاصة انه غير مقبول ان تظل قوانين من عشرات الاعوام تحكم المشهد الاستثمارى، ويكفى المنازعات التى كادت تكبد الدولة ملايين الدولارات بسبب عدم الالتزام بالعقود مع المستثمرين. نشأة الرجل الصعيدية تجعله دائما مهموما بمشهد الاستثمار فى محافظات الوجه القبلي، فالاهمال فى ملف الجنوب مسئولية الانظمة السابقة، وتتحمل الجزء الاكبر مما وصل اليه الصعيد، الا ان الوضع تغير، وبدأت نهضة التنمية فى الصعيد تنطلق. محطات صعبة واجهت الرجل، وخطوات كاد يندم عليها، لولا ثقته بقدراته عندما قرر الابتعاد عن العمل الحكومي، والاتجاه نحو سوق المال، لكن يظل يعتبر ان المستقبل بالاهتمام بالقطاعات القادرة على قيادة قاطرة الاستثمار تتصدر ملف الطاقة التى حققت فيه الحكومة نجاحا كبيرا، بل العمل على تصديره الى الخارج، بالإضافة الى المشروعات العقارية التى تقوم عليها العديد من الحرف والمهن الأخرى، ومن قبلها السياحة، المصدر المهم فى استقطاب الدولار، وتتطلب جهدا كبيرا للتسويق والترويج. انشغل الرجل لدقائق ببعض الامور الادارية وقبل ان يستكمل حديثه دار بداخلى سؤال، عن فائدة طروحات شركات الحكومة فى البورصة، ومدى جدواها فى تمويل عجز الموازنة، ويبدو أن الرجل قرأ ما بداخلى، فسرعان ما أجابنى بقوله «الحكومة تبحث عن تمويل عجز الموازنة من خلال عملية الطرح، وسوف تنجح فى نتيجة ملاءمة التوقيت، لكن عليها العمل على توسيع قاعدة الملكية وإتاحة الفرصة للقطاع الخاص للعمل والإنتاج». تأدية الواجبات تعنى ارضاء الذات واسعاد من حولك، هكذا أسس منهجه فى الحياة، وعلى هذا الاساس ساهم فى تحديد استراتيجة الشركة مع مجلس الادارة منذ تأسيسها، 3 محاور كانت الشغل الشاغل للرجل مع مجلس الادارة للوصول بالكيان الى الريادة، اعتمدت على تطوير العامل البشرى وتدريبه بصورة اكثر احترافية، والاهتمام بالعامل التكنولوجى باعتباره الأهم، والسياسة التوسعية، اذا أتاحت ظروف السوق ذلك. مرت الشركة التى يبلغ رأسمالها 25 مليون جنيه بمطبات مثل غيرها من مؤسسات السوق بسبب الازمة العالمية، دفعتها الى الاتجاه للسياسة التقشفية، لكن مع الحفاظ على استمرار النشاط، رغم اغلاق عدد من الفروع، ولكن مع تحسن الاوضاع تسعى الشركة لإضافة 3 انشطة ضمن استراتيجيتها تتصدرها ادارة المحافظ، وامين الحفظ، والاستشارات. «عماد الدين» لم يكن بالفتى المدلل فى أسرته رغم انه الابن الوحيد، وانما تحمل الصدمات حتى يحقق اهدافه، ويسعى دائما مع مجلس الادارة إلى ان تعتلى الشركة القمة، وتكون نواة لبنك استثمارى متكامل، وعلى الرغم من مشاغل العمل الا انه يظل عاشقا للاطلاع، محباً لرياضة السباحة التى تمنحه إصراراً وصبراً للوصول إلى الهدف، شغوفاً بالألوان التى تميل إلى النقاء والصفاء، لكن يظل حلمه بتكوين كيان مالى كبير وتحويل الشركة إلى بنك استثمارى.. فهل ينجح فى ذلك.