سياسة العصا والجزرة ، استراتيجية طبقها النظام الحاكم المخلوع فى مصر حتى النفس أو الرمق الأخير منه قبل رحيله للأبد ، فقد حاول النظام على مدى السنوات الماضية تنفيذ هذه الاستراتيجية ليس على الشعب فقط ، بل كافة الأصعدة السياسية التى تناهضه أو تعارضه بما فيها الأحزاب ، فمرة يحظر ، وأخرى يفرج ، مرة يصادر، ومرة يمنح انفراجة وهمية ، اعتقادا منه أن هذه الاستراتيجية هى الحل لإسكات الشعب والساسة ، واكتفائهم بالفتات الديمقراطى المزعوم . وفى الأيام الأخيرة للنظام ، ومنذ اندلاع ثورة التحرير التى قام بها شباب مصر بأصواتهم ودمائهم ، تمسك النظام أيضا باستراتيجية العصا والجزرة ، باتباع سياسة التخويف تارة عبر إطلاق الرصاص على صدور الشباب الأعزل بميدان التحرير وبكل مدن المحروسة ، وبإطلاق البلطجية والمساجين لإرهاب وترويع الآمنين ، وبإطلاق البلطجية ورجال الأمن فى ملابس مدنية بالخيول والجمال على المتظاهرين " وهو ما أطلق عليه موقعة الجمل " فى كوميديا سوداء اعتادها المصريون فى أحلك مواقفهم ، وعندما لم تفلح سياسة العصا مع الصامدين من شباب مصر ، بدأ النظام فى تقديم الجزرة قطعة قطعة ، تارة بتغيير وزارى محدود وإعلان نائب للرئيس ، ثم بتعديلات دستورية ، ثم باعتذارات وهمية لدماء وأرواح الشباب الذين قتلوا على أيدى خدام هذا النظام ، ثم .. وثم ، وكلها كما قلنا فتات من الديمقراطية . وكان النظام يعتقد أن قطع الجزرة ستسكت الأفواه الجوعى والظمأى ليس الى الخبز الحلال فقط ، بل إلى الديمقراطية ، وأن قطرات المياه التى يتم منحها للشعب قطرة قطرة ، يمكن أن تطهر المياه الراكدة والفاسدة لهذا النظام الذى قبع على صدورنا ثلاثين عاما ، حتى أن جيلين لم يعهدا سوى الشرب من هذه المياه الراكدة العفنة للنظام البائد . غير ان لا العصا أفلحت فى إسكات طالبى الحرية والديمقراطية ، ولا الجزرة أفلحت فى تلقيم الأفواه الصارخة الرافضة ، وكان رهان النظام على الوقت ، بينما كان رهان الشعب على الصمود ، و على نزاهة الجيش ، فى أن يتدخل للضغط بكل ما له من نفوذ فى مصر ، وبكل ما له من جذور ثقة واحترام فى نفوس المصريين ، وتخلى الجيش عن حياده ، وانحاز لصالح الشعب ، لأن الشعب هو الأبقى ، وهو السيد اليوم وصاحب الكلمة . لقد أثبتت استراتيجية العصا والجزرة فشلها أخيرا من قبل النظام الحاكم ، وأصبحنا الآن جميعا نقف على عتبة مرحلة جديدة ، مرحلة لا مفر فيها من إتمام مصالحة وطنية شاملة ، مصالحة لا تتقولب فيها الأحزاب أو الفصائل السياسية بين حكومة ومعارضة ، أن يقف الجميع صفا واحدا لتشكيل حكومة وطنية تمثل جميع الفصائل السياسية بكل توجهاتها ، أن تتاح الفرصة لكل الأصوات للخروج من خنادقها ، للعمل فى النور بعيدا عن الظلام ، العمل فى النور لا يحمل مخاطر العمل السياسى فى الخنادق المظلمة . على العهد الجديد أن يفتح ذراعيه لكل المصريين ، دون تقسيمات أو تصنيفات ، فبدون المصالحة الوطنية لن نجنى شيئا نافعا من هذه الثورة ، يجب فتح الأبوب لتشكيل مزيد من الأحزاب السياسية ، وعلى الحزب الوطنى أن ينهى نفسه بنفسه ، فالمواطن المصرى لا يرغب فى سماع اسم هذا الحزب مجددا ، لأنه لا يرتبط فى نفوس المصريين بثلاثة عقود من الامتهان والذل وضياع الحق والفساد فقط ، بل بات يرتبط الآن بدماء أبنائهم من الشهداء ، زهرات النوار الذين قتلوا فى ثورة التحرير. وعلى القلة الشريفة من بقايا الحزب الوطنى أن تدرك ، أن الواقع أثبت أنه لا وجود لهذا الحزب فى الشارع المصرى ، ويجب أن يختفى هذا الحزب اسما وفعلا من الوجود السياسى بكل ما له وما عليه ، وإذا أرادت القلة الشريفة المتبقية من هذا الحزب المشاركة فى الحياة السياسية ، فهذا حقهم مثل كل مصرى ، ولكن عليهم أن يأتوا فى حزب جديد بشكل وفكر جديد ، بعيد عن إرث الوطنى المنهار ، لأنهم لو غيروا وجوههم دون تغيير فكرهم وسياستهم ، سنجد حزبا وطنيا آخر يعود ويستعيد نفسه وجبروته القديم ، لأنه لم يتطهر من إرثه القديم ، لم تطهره الثورة ولم يستفد من درس الحرية . وعلى الجيش المصرى أن يكون عند حسن ظن الشعب المصرى ، أن يسعى وبسرعة إلى الانتقال للحكم المدنى ، فيجب الاعتراف بأن بعض المخاوف والشكوك تسرى فى نفوس المصريين من استمرار الحكم العسكرى فترة طويلة ، وتستعيد ذاكرة الكبار منا ما شهدته مصر فى عهد ثورة يوليو 52 ، وما رافق أو أعقب هذه الثورة من تصفيات سياسية ، وما ارتكبه البوليس الحربى والمخابرات وحرس الثورة فى حينه من فظائع ضد الشعب وضد خصوم هذا النظام . إن الجيش وحده سيثبت للشعب الآن أن مصر لن تعود ستين عاما للوراء ، بل إنها ستتقدم ستين عاما للأمام ، نعلم جميعا أن خطوات جسيمة ومعقدة ينتظر الشعب من الجيش تنفيذها ، على رأسها إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ، ومعتقلى ثورة 25 يناير ، وإطلاق الحريات السياسية ، وحرية تشكيل الأحزاب ، وإعادة إصلاح المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية ، وسرعة الإعلان عن التعديلات الدستورية ، والإعلان عن مواعيد مبكرة لإجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية ، وبجانب هذا كله ، تأمين الجبهة الخارجية من أعداء مصر المتربصين بها ، وتأمين الجبهة الداخلية ، لفض الاشتباك والكراهية المزمنة بين الشعب والشرطة . على الجيش مهام جسام ، ولن يستطيع الجيش وحده العبور بمصر من هذه المرحلة الحساسة ، بل يمكنه ذلك بنجاح إذا ما تكاتفت أيدى القوى الوطنية بكل فصائلها لدعم الجيش ومساعدته فى الوصول إلى بر الأمان ، بعيدا عن الشقاق والمزايدات ، وبعيدا عن أى أفكار لاقتسام التورتة ، تورتة نجاح الثورة ، وتورتة المرحلة السياسية القادمة ، علينا جميعا أن نشعر بأننا فى قارب واحد ، لو غرق لغرق الجميع ، ولو نجح وعبر البرزخ ، ستكتب النجاة للجميع ، يجب ألا تنسينا نشوة فرحة الانتصار الشعبى أن القادم أهم وأخطر مما تحقق ، العالم يرقبنا ، وأعداء يراهنون على فشلنا ، ويحلمون بعودة مصر الى الوراء لتواتيهم فرصة الانقضاض على مكاسبنا ، إننا جميعا ندخل مرحلة التحدى الأخطر ، لأنه تحدٍ مع أنفسنا ، نكون أو لا نكون ، جميعنا ينتظر الإجابة .