يبدو أن تداعيات السياسات الطائفية التي ينتهجها رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي لم تقف عند حدود تأزيم الوضع في بلاده وإنما امتدت أيضا إلى دول الجوار وألقت بظلالها على العلاقات بين بغداد وأنقرة . ففي 17 يناير, استدعى وكيل وزارة الخارجية العراقية محمد جواد الدوركي السفير التركي في بغداد يونس دميرار ونقل له احتجاج بغداد على ما اعتبره تدخلا تركيا في الشأن الداخلي لبلاده . وأوضحت وزارة الخارجية العراقية في بيان لها أن الدوركي أبلغ دميرار قلق الحكومة العراقية من التصريحات التي صدرت مؤخرا عن مسئولين أتراك، والتي من شأنها التأثير سلبا على العلاقات بين البلدين، وطلب إليه إبلاغ ذلك إلى حكومته. ومن جهته، أكد السفير التركي أن ما صدر من تصريحات على لسان المسئولين الأتراك كان بنية حسنة، مضيفا أنه سيقوم بإبلاغ حكومته بموقف الجانب العراقي. واللافت للانتباه أن الأمر لم يقف عند الخطوة السابقة حيث طالب سعد المطلبي عضو ائتلاف دولة القانون الذي يترأسه نوري المالكي بطرد الشركات التركية العاملة في بلاده, كما دعا إلى التحرك السريع لبناء خط لتصدير النفط عبر سوريا بدل ميناء جيهان التركي وذكرت صحيفة "المدى" العراقية أن المطلبي طالب أيضا بعدم السكوت عما سماه "تخرصات بقايا الدولة العثمانية". وكان وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو وصف في 15 يناير ما يجري في قضية نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي بأنه "إجراءات تطهيرية مؤذية من قبل الحكومة العراقية ضد السياسيين السنة". وجاءت تصريحات أوغلو بعد أيام من إعلان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أن العراق يشهد أوضاعاً لا يمكن معها الوقوف من دون حراك، محذراً من أن تلك الأوضاع تنذر بنزاع طائفي. وقال أردوغان في كلمة أمام كتلته البرلمانية في بداية يناير إن العراق يواجه مسئولية تاريخية، داعيا زعماء مختلف الكتل السياسية والدينية العراقية إلى "الإصغاء لضمائرهم للحيلولة دون أن يتحول التوتر الطائفي في بلادهم إلى نزاع أخوي جديد". وعلى الفور, انتقد المالكي حينها بشدة التدخلات التركية في شئون بلاده، قائلا :" إن وتيرة التدخل في الشأن الداخلي ارتفعت في الآونة الأخيرة وبشكل مفاجئ، وأصبح الحديث عن العراق، وكأنه تحت سيطرة أو توجيه أو إدارة الدولة الأخرى"، في إشارة الى تركيا. كما انتقد المالكي ما سماه انحراف السياسة الخارجية التركية عن مبدأ تجنب المشاكل والخلافات مع دول الجوار، وزعم أن تركيا تبدو اليوم دولة أزمة بسبب تدخلها في الشئون الداخلية لدول المنطقة, محذرا من أن دور أنقرة قد يؤدي إلى كارثة في المنطقة لن تسلم هي نفسها منها. وكانت إجراءات المالكي ضد السنة في أعقاب الانسحاب الأمريكي في 18 ديسمبر الماضي والتي تمثلت في صدور مذكرة توقيف بحق نائب الرئيس طارق الهاشمي بزعم تورطه في أعمال إرهابية والمطالبة أيضا بسحب الثقة عن نائب رئيس الوزراء صالح المطلك أشعلت فتيل أزمة بين ائتلافي دولة القانون بزعامة المالكي والعراقية بزعامة رئيس الوزراء الأسبق إياد علاوي، التي قاطعت جلسات البرلمان ومجلس الوزراء, وفيما حاولت تركيا القيام بدور الوساطة في هذا الصدد, إلا أن المالكي رفض هذا الأمر واتهمها بالانحياز للسنة في العراق. وبالنظر إلى أن الأزمة السياسية المتصاعدة في العراق أدت إلى تدهور الأوضاع الأمنية بشكل خطير, فقد حذرت صحيفة "الجارديان" البريطانية من ثلاثة سيناريوهات متوقعة هناك, إما التقسيم إلى ثلاث دول منفصلة للشيعة والسنة والأكراد, أو التوصل لشكل من أشكال الفيدرالية يكون فيها لدى الأقاليم استقلالية أكثر في شئونهم الخاصة وولاء أقل لبغداد, أو الانزلاق إلى الفوضى. وأضافت الصحيفة أن تحرك رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي في منتصف ديسمبر الماضي ضد نائب الرئيس السني طارق الهاشمي كان استفزازيا، مشيرة إلى أن المالكي الذي قال في مقابلة صحفية مؤخرا إن هويته الأساسية هي الشيعية لم يحظ أبدا بشعبية بين السنة المهمشين وله علاقات متوترة مع الأكراد. وتابعت " العراق اليوم يجد نفسه في مفترق طرق أكثر خطورة من أحلك أيام عام 2006 عندما اندلع العنف الطائفي, ومن هنا يبدو أن هذا البلد أمامه ثلاثة مسارات ليسير فيها, الأول التقسيم: أي ثلاث دول منفصلة للشيعة والسنة والأكراد يحكمون فيها أنفسهم ويستودعون العراق إلى التاريخ". واستطردت الصحيفة" هذا الخيار سيفيد الأكراد الذين كانوا مشغولين ببناء دولة في كل شيء إلا الاسم طوال السنوات التسع الماضية والذين يقفون اليوم لقطف الجائزة الكبرى من احتياطيات النفط التي تحت أقدامهم, وقد يكون الأمر جذابا أيضا للسنة الذين ليس لديهم احتياطيات نفط في موطنهم ويخشون ألا يكون لديهم أمل في ظل حكومة أغلبية شيعية بأية حال". وأضافت" أما الخيار الثاني فهو شكل من أشكال الفيدرالية يكون فيها لدى الأقاليم استقلالية أكثر في شئونهم الخاصة وولاء أقل لبغداد, ومحافظتا الأنبار وديالى السنيتان اتخذتا خطوات في هذا الاتجاه، لكن المالكي تعهد بمنع أي خطوة من هذا القبيل". واختتمت "الجارديان" قائلة:" أما الخيار الثالث فهو عدم فعل أي شيء (ذاك الخيار الذي يبدو أن العراق يعتمده هذه الأيام) وهذا يعني الخروج من أزمة للوقوع في أخرى , بالإضافة إلى مؤسسات ما زالت غير مجدية إلى حد كبير ومواطنين يعلمون أن الدولة نادرا ما ستدعمهم, وضمن هذا الخيار , وهو أرجح الخيارات الثلاثة, هناك انزلاق تدريجي إلى الفوضى". ويبدو أن ما ذكرته "الجارديان" غير بعيد عن الواقع, حيث أعلنت مصادر أمنية وطبية عراقية في 16 يناير مقتل 12 شخصا وإصابة 17 آخرين بجروح في انفجار سيارتين مفخختين في الموصل شمال بغداد وفي الحلة جنوب العاصمة, استهدفت إحداهما مخيما للنازحين. وأضافت المصادر السابقة أن انفجار الموصل استهدف مجمع الغدير للنازحين من طائفة الشبك التي تعرضت لعمليات تهجير من قبل من سمتها الجماعات المتطرفة، ما دفعها للانتقال إلى مخيمات خارج المدينة. وكانت سلسلة هجمات انتحارية هزت أيضا العراق خلال الأيام الماضية , حيث استهدف انتحاري بحزام ناسف في 14 يناير زوارا غرب مدينة البصرة جنوب البلاد, ما أوقع أكثر من خمسين قتيلا وحوالي 137 جريحا. كما انفجرت أربع سيارات مفخخة يقود إحداها انتحاري، أعقبها تفجيران انتحاريان في الرمادي غرب بغداد في 15 يناير, ما أدى إلى مقتل سبعة أشخاص وجرح 19 آخرين. والخلاصة أن سياسات المالكي الطائفية تأخذ العراق الجريح إلى حرب أهلية أو التقسيم, ولذا لا بديل عن تحرك الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي على الفور لإنقاذ بلاد الرافدين قبل فوات الأوان .