دخل الصحفي الشاب مكتب البابا شنودة الثالث - بطريرك الكرازة المرقسية الراحل - منتصف ثمانينيات القرن الماضي- ذات مساء، على خلفية حوار أجراه مع الأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي- وقتئذ، وأحد أساقفة اللجنة التي شكلها الرئيس الراحل محمد أنور السادات لإدارة الكنيسة، عقب قراره الشهير بعزل البطريرك الراحل، وتجريده من رتبته الكنسية، انتقد البابا الحوار مع الأسقف البارز، وفنّد عباراته، فانطبعت في ذاكرة الصحفي الشاب عبارات النقد اللاذع، وعكّرت فيما بعد صفو علاقة الأبوة بين التلميذ «جمال أسعد»، والأستاذ «البابا شنودة الثالث»، حسبما روى في كتابه الشهير «إني أعترف..كواليس الكنيسة والأحزاب والإخوان المسلمين». «أسعد» الذي بدأ حياته السياسية قبل أن يكمل عامه العشرين، عضوا بمنظمة الشباب في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، تدرّج في عمله الحزبي ابتداءً من عضوية منبر «اليسار»، مرورًا بتأسيس حزب التجمع عام 1984، وانتهاءً بعضوية حزب العمل، ليصبح في بضع سنين نائبًا برلمانيًا - دورتي «1987-1984»، مثيرًا للجدل، في الوسطين السياسي، والقبطي، نظير تحالفاته الحزبية من جانب، وعلاقته التي بلغت ذروة توترها مع المقر البابوي فيما بعد. على خلفية اختياره ضمن قائمة النواب المعينين في برلمان 2010 - في خريف فترة الرئيس المخلوع محمد حسني مبارك، تبلورت تجربة السياسي البارز، وصار شاهدًا على متغيرات مراحل الحياة السياسية المعاصرة، ربما فارقه الجدل نسبيًا جراء تصاعد الأحداث بعد ثورة 25 يناير، لكن ثمة حضورا إعلاميا مستمرا يحيله إلى مناطق الألغام على خلفية تصريحاته الصادمة. في حواره ل»الوفد»، يطرق النائب السابق جمال أسعد، أبواب عدد من القضايا الهامة على الصعيدين الكنسي، والسياسي، معرّجًا على جدوى زيارة البابا تواضروس للملك سلمان بن عبدالعزيز، وجدلية «جزيرتي تيران وصنافير» ومدى صحة وثائق «السعودية»، دعوات التظاهر فيما يسمى «جمعة الأرض»، وتطورات أزمة وادي الريان، وقضية الإيطالي «جوليو ريجيني»، فإلى الحوار: دعنا نبدأ من حيث نهاية الأحداث، كيف ترى الجدل الدائر حاليًا، بشأن جزيرتي «تيران وصنافير»، والصراع بين مؤيدي انضمامهما للسعودية، ومعارضي التنازل بحجة أنهما مصريتان؟ الجدل بشأن الجزيرتين، تاريخي، قانوني، سياسي، ثم أصبح مجتمعيًا، لأن قرار التنازل عنهما ونقل ملكيتهما إلى دولة أخرى، وبعده حدثت هذه التشابكات، أما ملكيتهما يثبتها التاريخ والوثائق، وهناك وثائق تجنح إلى ملكية السعودية، لكن الإخراج السياسي الفاشل أدى إلى مشاكل سياسية، قد تؤثر على النظام، والرئيس نفسه، وكان من الممكن تفادي ذلك بتوضيح الأمر بشفافية، مسبوقة بتميهد إعلامي، قبيل زيارة الملك سلمان، وإطلاع الشعب على تفاصيل مفاوضات لجان الدولتين بشأن «تيران وصنافير». إذن، إلى أي مدى بدا مقنعًا حوار الرئيس عبدالفتاح السيسي مع ممثلي المجتمع، بعد تصاعد وتيرة التراشق اللفظي بين مؤيدي ضم الجزيرتين ل»السعودية»، ومعارضيه؟ حوار الرئيس السيسي جاء على طريقة «مكره أخاك لا بطل»، وهو أراد أن يكون الحوار بهذا الشكل، وليس خطابًا، أو لقاءً إعلاميًا، للتأكيد على مشاركة المجتمع، وقدم خلال حواره أسبابا مقنعة، بشأن ملكية السعودية للجزيرتين، وفق سياق تاريخي. دعا نشطاء رافضون لانتقال ملكية الجزيرتين للتظاهر تحت شعار «الأرض هي العرض»، والمطالبة بإعادة «تيران وصنافير» لمصر..كيف ترى هذه الدعوة؟ استغلال قضية «تيران وصنافير»، والدعوة للتظاهر، لا تتسق مع تحديات المرحلة الحالية، ومن يعترض لديه ممارسات أخرى غير التظاهر، لأن الوطن في هذه الفترة فوق الجميع، بما فيه النظام، والمواءمة الآن مطلوبة، وعلى الداعين للتظاهر طرح هذا التساؤل، هل التظاهرات توائم الظرف السياسي الراهن؟. لماذا لا تلجأ الدولة للاستفتاء، كبديل مقنع عن التظاهرات؟ اعتدنا في مصر على التبرير بالدستور - مؤيدين أو معارضين- لصالح الأهواء الشخصية، والمادة 151 من الدستور تحدد الاستفتاء عند التنازل عن السيادة الوطنية، لكن فيما يمس جزيرتي تيران وصنافير، فما فعلته الدولة تنازل عن الإدارة وليس عن السيادة، والفيصل هنا هو قرار ترسيم الحدود، بما يتطابق تمامًا مع منطقة «حلايب وشلاتين» اللتين كانتا تحت إدارة السودان، ثم استردتها مصر. بعيدًا عن أزمة الجزيرتين، البعض روّج أن زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز، تمهيد لمصالحة بين النظام، والإخوان، هل تتفق مع هذا الطرح؟ زيارة الملك سلمان بن عبدالعزيز للقاهرة بريئة من «أوهام المصالحة»، لأن المصالحة مع جماعة الإخوان، تتجاوز حدود الوساطة، وترتكز على القانون، والحق الدستوري، والرضا الشعبي، وبحكم الدستور، فإن كل مواطن مصري لم يحرض على العنف، والإرهاب، يحق له المشاركة في الحياة السياسية، أما الذين تورطوا في العنف، فلا بديل لهم سوى المحاكمة. وماذا عن زيارة البابا تواضروس الثاني للملك سلمان، والانتقادات التي تعرض لها البطريرك بحجة «تركه» للصليب؟ زيارة البابا تواضروس الثاني للملك سلمان بن عبدالعزيز، يمكن البناء عليها لخلق حوار مجتمعي عربي، إذا كانت قد تمت على خلفية «قبول الآخر»، بعيدًا عن المجاملات الرسمية، وهي مفيدة للعاهل السعودي، نظير تضمينها عدة رسائل منها «سماحة الإسلام، ونفي أي علاقة للمملكة العربية لتنظيم داعش»، أما عن مزايدات «ترك الصليب»، فهي سطحية عقائدية، لأن حمل الصليب نوع من الطائفية المستحدثة في العقود الأخيرة، كرد فعل على المظهر السلفي عند المسلمين، والدليل أن البابا كيرلس لم يرتد زيًا عليه صلبان خلال فترة بابويته. ونحن على أعتاب احتفال الكنيسة بعيد القيامة، إلى أي مدى تؤثر زيارة البابا للقدس في جنازة المطران الراحل الأنبا إبراهام، على معدلات سفر المسيحيين للقدس هذا العام؟ لا يوجد نص ديني يمنع الأقباط من زيارة القدس، وموقف البابا شنودة الثالث من زيارتها كان سياسيًا، لمواكبة المد القومي وقتئذٍ، والرئيس السادات لم يدعه للزيارة خلال رحلته كما يروج البعض، لأن الصراع بينهما بدأ منذ أحداث الخانكة 1972، وانتهى بالتحفظ عليه، وعزله من مصبه، أما زيارة المسيحيين للقدس، فهي ليست مرتبطة بزيارة البابا تواضروس، لأن المزاج العام للمجمع المقدس يفضل إلغاء قرار «البابا شنودة»، لكنه في الوقت ذاته يستشعر الحرج، وبالتالي القرار قائم ظاهريًا، لكن الزيارات مستمرة، ومن الناحية السياسية لا يجوز السفر للقدس، منعًا للتطبيع مع إسرائيل. منذ قدومه للمقعد الرئاسي، يحرص المشير عبدالفتاح السيسي على زيارة الكاتدرائية في عيد الميلاد، كأول رئيس مصري يحضر قداس العيد، كيف ترى أثر هذه الزيارة؟ زيارة الرئيس للكاتدرائية في عيد الميلاد نوع من المجاملة للمسيحيين، وكسرت حواجز كثيرة، لكنها يجب ألا تمتد لاختزال المسيحيين في الكنيسة، منعًا لتكرار أخطاء الأنظمة السابقة، وهي ليست بديلًا عن تفعيل حقوق المواطنة، باعتبارها مساواة بين كل المصريين. برأيك، لماذا تتصاعد أزمة الأحوال الشخصية بالكنيسة، رغم إعلان المجمع المقدس عن قرب صدور لائحة جديدة تتضمن توسعًا في أسباب الطلاق؟ البابا تواضروس لديه أفكار أكثر استنارة من قيادات بالمجمع المقدس، فيما يمس الأحوال الشخصية، وسيضيف بعض بنود لائحة 38 في اللائحة الجديدة المزمع إقرارها، لكن تبقى أزمة تصاريح الزواج الثاني، والتي لا حل لها سوى الزواج المدني، وهو مسئولية الدولة، وليس الكنيسة، ومشكلة المتضررين الحقيقية في الزواج الثاني، وليست في الطلاق. تصاعدت أزمة دير وادي الريان، ثم هدأت نسبيًا بعد مفاوضات، واتخذت الكنيسة موقفا ضد الرهبان منذ بداية الأزمة، ماذا عن قراءتك لتصرفات أطراف الأزمة؟ الدير استولى على 13 كيلو مترا مربعا، وهذا الدير غير معترف به كنسيًا، لأنه لا يخضع لشروط الرهبنة، ويضم رهبانًا منحرفين، بلا شروط، أصروا على تحدي الدولة، ومواجهة القوانين، وبعد التفاوض منحتهم الدولة 4000 فدان، ونفق تحت الطريق الدولي المزمع إنشاؤه، وعيون كبريتية، فهل يحق لراهب «مات عن العالم» الاستيلاء على أراضي الدولة؟، أما عن موقف الكنيسة، فإن البابا تواضروس اتخذ موقفًا صائبًا داعمًا لسيادة الدولة منذ البداية . عودة إلى أزمة جزيرتي «تيران وصنافير»، هل ترى أن البرلمان يجيد التعامل مع مثل هذه القضايا الشائكة، في ضوء تصريحات رئيس مجلس النواب ب» عدم معارضة الحكومة الآن»؟ نحتاج الآن إلى مصارحة من أجل الوطن، ولا يجوز أن تكون وظيفة رئيس مجلس النواب، مجاملة الحكومة، لأن ثمة اختصاصات وصلاحيات، حين يمارسها البرلمان في مواجهة الحكومة، تلتف حوله الجماهير، وتقوى الجبهة الداخلية للدولة، ولا يوجد برلمان حقيقي حتى الآن. أخيرًا، كيف ترى تعامل الحكومة مع قضية مقتل الإيطالي «جوليو ريجيني»؟ المعالجة خاطئة كالعادة، وعلى الجانب الآخر، التصعيد غير مقبول، والمعالجة الإعلامية ورطت مصر في القضية، ونريد أن نسأل الجانب الإيطالي: من الذي قتل جون كيندي؟، حيث إن ثمة جرائم لم يستدل على مرتكبيها حتى الآن رغم مرور عشرات السنوات، ويجب على النظام والدبلوماسيين الحكماء معالجة الموقف مع الجانب الإيطالي، واستغلال زيارة الرئيس الفرنسي لحل هذه القضية، حرصًا على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي.