الشوارع والبيوت.. هوا البحر وريحة اليود.. بهجة الكورنيش في يوم عيد، ناس طيبين باللبس الجديد رايحين، لو شفتهم مش هتعرف إذا كانوا »محمد« و»علي« و»خديجة« ولا »بطرس« و»مونيكا« و»مينا«. الجيران.. أصحاب القهوة.. شلة البنات وجدعان الحتة.. الكل أتمني لهم قداس جميل في الكنيسة اللي بتردد الترانيم.. صدقوني هي دي الحقيقة في شارع »خليل حمادة« واللي حصلت في شوارع وكنائس في إسكندرية كثير. دي إسكندرية »سيد درويش« من مائة عام ويزيد، قال بالغُني وبعلو صوته: مصر وطنا كلنا جميعاً للوطن ضحية أجمعت قلوبنا هلالنا وصليبنا أن تعيش مصر عيشة هنية. وطبيعي يغني للمحبة سيد درويش ابن حي »كوم الدكة« قسم العطارين، والمولود في 17 مارس 1892، ابن البحر والمدينة بناسها اليهود والأرمن والمسيحيين والجريج والمسلمين. مين يقدر يكره إسكندرية »محمود سعيد« وبيته في جناكليس، هذا الفنان التشكيلي الجميل الذي ولد علي البحر عام 1897 وبحسه الفني المرهف وعبر بألوانه وخطوطه وعلي رأسها الحس الوطني ورموز الشعب المصري باختلاف طوائفه، كذلك المناظر الطبيعية للإسكندرية فجاءت تحفته »بنات بحري« تخلد الوجوه السكندرية البسيطة العاشقة للحياة والبحر، فيمكنك عندما تري لوحاته أن تتلمس تلاطم الأمواج وصوت الترام أبودورين وزحمة المنشية ومحطة الرمل. ينشر الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبوسنة: هنا الإسكندرية لغز تتمادي العصور في تفسيره من قديم تزوجت البحر وعاشت رقصة نادرة الإيقاع وسط هديره كلما تعب البحر جاء إليها ليراها جسداً دافئاً في سريره وبالبلدي قالها عمنا »صلاح چاهين« إسكندرية أحسن ناس ع البحر ماشية تتمخطر من سيدي بشر لأبوالعباس أيوه يا عالم عالمنظر. حقاً سيحتار الكثيرون في حب البشر للإسكندرية، ففي أوائل القرن العشرين وبالتحديد عام 1924 كان هناك فنان إيطالي اسمه »أتورينوبيكي« أحب الإسكندرية وعلي يديه تعلم الأخوان المشهوران سيف وأدهم وانلي اللذان عاشا في حي محرم بك لتحمل لوحاتهما عن »راقصات الباليه« العذوبة السكندرية اللامحدودة لهجة أهل الإسكندرية يتحدثون فيها بالجمع وليس بالمفرد فلم يكن بمقدور واحد أن يتجه إلي مكان دون أن يشترك الآخرون معه في قارب واحد يلفهم البحر مما أفضي إلي توحد التفكير وتذكروا معي كلمات الشاعر اليوناني السكندري »كفافيس« الذي لقبه لورانس داريل في رباعيته عن الإسكندرية بأنه شيخها يقول في قصيدته »المدينة« حين يتمثل فيها أحداً يريد الذهاب إلي مدينة أفضل: سأذهب إلي أرض ثانية وبحر آخر إلي مدينة أخري تكون أفضل من تلك المدينة كل محاولاتي مقضي عليها بالفشل وهذا ما حدث لم يستطع »كفافيس« أن يعيش بعيداً عن الإسكندرية فعندما سافر إلي أثينا لإصابته بسرطان الحنجرة، عاد بعد شهرين إلي الإسكندرية ليتوفي في المستشفي اليوناني القديم »كوتيسكا« والذي يقع أمام منزله. يغترب الكاتب الكبير »محمد جبريل« ابن حي بحري عن مدينته الجميلة الإسكندرية فيعاوده الحنين والشوق إلي الإسكندرية، فيقول: الإسكندرية: البحر والشاطئ والناس والجوامع وحلقات الذكر والجلوات وسوق العيد وزحام شارع الميدان ورحلات السمان والبلانسات والأمطار وتصريف المياه في جوانب الشوارع والفريسكا والذرة المشوي وصيد العصاري والجرافة والطراحة والسنارة. حقاً إسكندريتنا غواية اليونانيين والرومان والإيطاليين وخلق من الشوام والإنجليز والفرنسيين والأندلسيين فشيخنا المرسي أبوالعباس في مدينة مرسيه الأندلسية فأصبحت أم السكندريات فهناك 55 مدينة في العالم تحمل اسم الإسكندرية أشهرها إسكندرية تركيا واليونان وأمريكا ولكن إسكندريتنا تبقي مدينة كل العصور والأزمنة فهي مدينة تحتضن الغرباء والعلماء، الفلاسفة والتجار، الملاحين والصيادين والأدباء. القائد الروماني الشهير يوليوس قيصر لم يعشق ملكتها المصرية كليوباترا فقط بل وقع في عشق الإسكندرية، فحينما وقعت عيناه لأول مرة في الإسكندرية، قال: »حاورت المدن جميعاً إلا أنني لم أسمع إلا همساً من بين المدن جميعاً أنظر حولي ولا أجد سوي الإسكندرية«. في مساء إحدي ليالي شهر نوفمبر عام 1896 وعلي شاطئ الثغر تم أول عرض سينمائي لأفلام لوميير »مخترعي السينماجراف« الأولي بالعالم العربي لتولد صناعة السينما في مصر علي شاطئ الإسكندرية، ففي عام 1906 استورد المصوران الإيطاليان »عزيز بندرتي وامبرتو ملافاس« الأسطوانات الناطقة للتعليق علي الأفلام التي يعرضونها بدار العرض التي أقامها في 29 نوفمبر 1906، وهي سينما عزيز ودرويش بمحطة الرمل والموجودة مكانها الآن سينما ستراند. أما عام 1926 فوصل إلي الإسكندرية وعن طريق الميناء بواسطة إحدي السفن شابان فلسطينيان قادمان من شيلي وهما »بدر لاما وإبراهيم لاما«، انضما إلي جماعة أنصار الصور المتحركة التي تحولت بعد ذلك إلي شركة سينمائية عرفت باسم مينا فيلم وضمت كل هواة الفن السينمائي بالإسكندرية ثم قام الاخوان لاما بتأسيس شركة كوندور فيلم وإنشاء استوديو لاما في صحراء فيكتوريا. أما توجو مزراحي ابن الإسكندرية والمولود بها في 2 يونيو عام 1901 فيعد المؤسس الحقيقي لبناء السينما المصرية، حيث قام بتأسيس شركة الأفلام المصرية بالإسكندرية، وفي عام 1929 قام بإنشاء استوديو سينمائي توجد مكانه الآن سينما »ليلي« بباكوس وفي عام 1930 عرض أول أفلامه »الهاوية« بدار سينما بلفي ولكن هل توقف عشق الجاليات الأجنبية عن حب السينما وازدهارها في الإسكندرية؟ أبداً يكفي أن نعرف أن جورج قرداحي اللبناني والمقيم في الإسكندرية قام ببناء سينما بلازا وسينما رويال ومسرح محمد علي »مسرح سيد درويش الآن« وإلياس جورج لطفي لبناني وحصل علي الجنسية المصرية وكان يمتلك سينما ركسي بالمنشية وسينما رمسيس. أما مسيو أرسلانيدس اليوناني فقام ببناء سينما »أوديون«. في النهاية تاهت كلمات وازدحمت الذاكرة بالتواريخ لتظل الإسكندرية مدينة مفتوحة لكل الثقافات والأديان والمذاهب. وإذا كانت خفافيش الظلام والإرهاب استطاعت في غفلة أن تنال منها فحمائم السلام والحب هي الباقية.