أثارت كلمة الرئيس المصري محمد مرسي في قمة دول عدم الانحياز التي عقدت في العاصمة الإيرانيةطهران قبل أيام، عاصفة من ردات الفعل ما زالت أصداؤها تتوالى حتى بعد انتهاء القمة. وإذ انقسمت الآراء بالمنطقة في توصيف كلمة مرسي باعتبارها دشنت «عبد الناصر جديداً» كما يروج مؤيدوه، أو مجرد كلمة ل«رئيس حزب وليس لحركة عدم الانحياز» كما يقول خصومه في النظام السوري ومناصريه، يحاول هذا المقال تحليل خطاب مرسي بغرض استخلاص الرسائل السياسية التي توخى الرئيس المصري إرسالها في القمة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها. وإذ تشي المفردات بميول صاحبها الفكرية والعقائدية، فقد كان الاستماع إلى الخطاب عدة مرات مناسبة لكشف الأرضية التي انطلق منها؛ ومن ثم الوقوف على بنية هذا الخطاب واستشراف المعاني التي حاول إيصالها. افتتح محمد مرسي كلمته كعادته منذ انتخابه بمفردات الخطاب الديني بحمد الله والصلاة على النبي وآل بيته وصحبه، ولكنه ترضى في هذه المرة عن الخلفاء الراشدين الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي. ومثل ذكر الخلفاء الراشدين في مفتتح الخطاب الرسالة الافتتاحية للرئيس المصري في القمة التي عقدت في طهران، عين بموجبها الحدود المذهبية لخطابه، قبل أن يلحقها مباشرة بالآية القرآنية الداعية إلى الاعتصام بحبل الله. والواقع أن الأمر كان ليكون عادياً لو كانت الخطبة في محفل غير إيران التي يشكل المسلمون الشيعة غالبية سكانها، لأن الترضي على الخلفاء الراشدين لا يتم بالضرورة في كل خطابات أهل السنة الاعتيادية. والحال أن رسالة مرسي هنا تتوجه إلى معارضي الزيارة إلى إيران في الداخل المصري، وخصوصاً من التيار السلفي، وفي دول الخليج العربية المتخوفة من أن قيام علاقات مصرية - إيرانية سيكون على حسابها وكاسراً للتوازن الإقليمي من وجهة نظرها. كان للترضي على الخلفاء الراشدين فعل السحر، في ظل المناخ المذهبي المحتقن في طول المنطقة وعرضها، إذ ان التعليقات على مواقع التواصل الإلكتروني وعلى المواقع التي تعرض كلمة مرسي اعتبرت أن هذه الرسالة هي الأبرز في القمة. وبعطف هذه الرسالة على زيارة محمد مرسي الأولى إلى السعودية واعتباره السعودية «راعية» للمذهب السني ومصر «حامية» له، تكون الرسالة قد تخطت الداخل المصري لتطال المحيط العربي الخليجي. أعاد الرئيس المصري الاعتبار إلى ذكرى جمال عبد الناصر، لا ليمدحه، بل ليثبت دور مصر التاريخي في تأسيس حركة عدم الانحياز، وليبني على ما حققته مصر من رصيد تاريخي فيها. بمعنى آخر، أراد مرسي الإضاءة على دور مصر التاريخي فاضطر إلى الاستعانة بذكرى مؤسس الحركة الذي يخاصمه أيديولوجياً، وهو الذي وصف مرحلة حكمه وصفاً سلبياً في أول خطاباته بعد انتخابه رئيساً بقوله «والستينيات وما أدراك ما الستينيات». وحتى يزيل محمد مرسي الاشتباك بين الهدف (ترسيخ دور مصر التأسيسي في الحركة) والطريقة (استدعاء ذكرى عبد الناصر)، فقد ذكّر مرسي بدور مصر و«قيادتها حينئذ»، التي عبرت عن إرادة شعبها حينئذ - مرة أخرى - لكسر الهيمنة الخارجية. أظهرت المفردات هنا أن مرسي يتصالح مع عبد الناصر وتجربته وما مثله في إطار تاريخي عام، وفي سياق كسر الهيمنة الخارجية وصولاً إلى استدعاء سياق مشابه ومتصل إلى حد ما، وكأن مرسي وما يمثله يمثل استمرارا لسياسات عبد الناصر في تصديه للهيمنة الخارجية. وبعد تأكيد مساهمة مصر التاريخية في تأسيس حركة عدم الانحياز، ينفذ مرسي إلى رسالته الثالثة مباشرة وهي أن مصر هي «حجر الزاوية» في الربيع العربي؛ بعد أن يذكر تونس ويعرج على اليمن وسوريا التي سيمر عليها هذا الربيع إن شاء الله. هنا يجير مرسي الحراك الشعبي العربي ليصب في أهمية مصر راهناً، في تتابع خطابي لدور مصر الريادي تاريخياً وعطفه على واقعها المحوري كما يراه الرئيس المصري. كانت الرسالة الرابعة في خطاب مرسي أن مصر دولة «مدنية ديموقراطية حديثة»، وهنا يتيه الرئيس المصري فخراً أن بلاده ليست دولة دينية أو دولة تحكم شمولياً، ما يعكس وعيه بالأفضلية التي امتلكها في القمة، باعتباره رئيساً منتخباً بطريقة ديموقراطية شئنا أم أبينا - في محفل لا تتمتع غالبية دوله بالأوصاف ذاتها. وتجلى ذلك بوضوح عندما قال: «نعيش واحدة من أهم اللحظات في تاريخنا المعاصر، بعد ثورة شعب مصر السلمية». أما الرسالة الخامسة التي توخى مرسي إرسالها في كلمته وفق تحليل الخطاب - فتمثلت في تطلع مصر إلى القيام بدور عالمي، فبعد حشو إنشائي عن المشكلات الدولية مثل تغير المناخ والإرهاب، ينفذ مرسي إلى هدفه المضمر، إذ أكد الرئيس المصري في أكثر من موضع وفي اختتام كلمته ضرورة إصلاح وتوسيع مجلس الأمن وضرورة رفع الظلم التاريخي عن أفريقيا وتخصيص مقعد دائم لها. ومن المعلوم أن الدول الأفريقية الثلاث: مصر ونيجيريا وجنوب أفريقيا، ستنحصر بينها المنافسة على هذا المقعد الدائم، فيما المطالبة الإيرانية السابقة بمقعد دائم للدول الإسلامية ستجعل المنافسة المصرية أصعب نسبياً، لأنها ستتنافس ساعتها مع باكستان ذات القدرات النووية وعدد السكان الذي يناهز مئة وخمسين مليون نسمة، أو تركيا ذات التحالفات الدولية المتينة، أو إيران ذات المشروع الكبير، أو السعودية التي تقع المقدسات الإسلامية ضمن حدودها السياسية. هنا يظهر الخطاب تطلعاً مصرياً جديداً إلى دور عالمي ووعياً بموازين القوى التنافسية المحتملة. وزاد مرسي من الحمولة العالمية لخطابه بذكر ضرورة تفعيل دور الجمعية العامة للأمم المتحدة مستدعياً المقارنة بينها وبين مجلس الأمن، الذي يمنع في بعض الأحيان حل الأزمات مثل «الأزمة التي تدمي قلوبنا جميعاً وهي الأزمة السورية». أما الاستطراد في مراسم التسليم وسؤال الحاضرين عن موافقتهم على تسلم الرئيس الإيراني للرئاسة الدورية، وهو أمر متفق عليه بروتوكولياً منذ تأسيس القمة التي تتسلم رئاستها الدورية الدولة المضيفة، فهدف إلى إظهار أن مصر صاحبة الدور التاريخي في التأسيس والحاضر المركزي تتنازل عن رئاسة القمة بشروط إلى إيران. وفي هذا السياق يفهم عبارة مرسي أن مصر «تسلم الرئاسة وستتابع مع إيران والرئاسات التي ستأتي من بعدها» لقضايا الحركة، أي بعبارة أخرى مصر لها نفوذ معنوي في الحركة وهي صاحبتها الحقيقية، ولكنها تتنازل وفق مقتضيات البروتوكول فقط. ظهر في رسالة مرسي السادسة أن سوريا وفلسطين متصلان لا ينفصلان، إذ وزع المسألتين على الخطاب وفقراته، ولكنه ذكرهما معاً في غالبية المرات باعتبارهما «يناضلان ببسالة مبهرة طلباً للحرية والعدالة والكرامة». استغرب كثيرون من حدة مرسي وحملته على النظام السوري في ضوء المبادرة المصرية لحل الأزمة السورية، والتي تلحظ تشكيل لجنة رباعية قوامها مصر وتركيا وإيران والسعودية، لأن نبرة خطاب مرسي قد تقفل الباب أمام المبادرة المصرية. ولكن المتفحص في مفردات الخطاب وسياقه يلاحظ أن المبادرة المصرية ما زالت قائمة فيه، وأن مرسي يشرح اشتراطاتها النهائية بالقول: «انتقال سلمي للسلطة في سوريا». أي ان المبادرة قائمة على قاعدة أن هدفها الواضح هو انتقال السلطة في سوريا، فيما سيجري التباحث فقط حول تفاصيل الفترة الانتقالية. وتجلت الرسالة الثامنة في تحليل الخطاب مع تضامن مرسي مع القضية الفلسطينية، وتبنيه مفردات السياسة العربية في المرحلة الواقعة بين السبعينيات وحتى التسعينيات إبان «مؤتمر مدريد» و«اتفاق أوسلو»، مثل مفردات «الحل العادل والشامل الذي يضمن الحقوق المشروعة غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الحرة على أرضه بإرادة كل أبنائه داخل الأرض الفلسطينية وخارجها». لم يعين مرسي هنا حدود الدولة الفلسطينية ليترك لنفسه هامشاً أكبر للحركة، وحين يشدد على سجناء الشعب الفلسطيني ومظلوميتهم، فإنه يفتح الطريق لنفسه ربما للتوسط لاحقاً في هذه القضية. يذكر مرسي في كلمته «المصالحة الفلسطينية التي تم التوصل إليها مؤخراً»، فإنه يقول بمعنى آخر إن مصر من باب أولى لن تترك القضية الفلسطينية ورعايتها تفلت من يدها، في رسالة إلى إيران وتركيا معاً، اللتين أبحرتا في الشارع العربي على شراع التضامن مع القضية الفلسطينية. كشفت مفردات كلمة مرسي أن حاول تضمين كلمته نفساً عالمثالثياً توزع بين ثنايا القضايا التي تناولها في هذه المحفل العالمثالثي بامتياز، فمرسي القادم من الصين إلى طهران يؤكد أهمية مجموعة 77 والصين. ومرسي، صاحب التوجه والمشروع الإسلامي الإخواني، لم يجد غضاضة في الإشادة بكوبا ودورها في حركة عدم الانحياز، وصولاً إلى التنديد بالحصار الأميركي عليها والذي نعته «جائراً». ولم تفت مرسي الإشادة بالزعيم الجنوب أفريقي نلسون مانديلا، في تبن واضح لقضايا العالم الثالث، وهو أمر جديد على مستوى الخطاب الإخواني، الذي يركز جل اهتمامه على قضايا العالم الإسلامي. تمثلت الرسالة العاشرة في خطاب مرسي في التحسن المحدود على صعيد العلاقات المصرية - الإيرانية، فمرسي شدد في كلمته «جئنا هنا ... وكرر جئنا هنا لنسلم رئاسة الحركة من مصر إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية الشقيقة»، وكأنه يقول لم تعد القطيعة موجودة بدليل زيارتي؛ ولكن غرض الزيارة الأساسي لم يكن العلاقات المصرية - الإيرانية بل قمة عدم الانحياز. أعطى مرسي تضامناً محدوداً مع إيران في ملفها النووي، حين شدد على مواقف مصر المتكررة من الملف التي تتضمن حق إيران في تخصيب اليورانيوم للأغراض السلمية، لكن (وتحتها خطوط) في ضوء الضوابط التي عينتها معاهدة حظر الانتشار النووي). بمعنى آخر أتضامن مع إيران، لكن من دون الدخول في مواجهة لأجلها في مجلس الأمن. قضى محمد مرسي ست ساعات في إيران، ألقى خلالها كلمته في القمة واجتمع مع الرئيس الإيراني لمدة أربعين دقيقة لرفع العتب وليس للتباحث حول إعادة العلاقات المصرية - الإيرانية وتوقيتها وطريقة إخراجها. أعطى مرسي إيران جزءاً يسيراً مما عولت عليه، ولكنه في هجومه العنيف على حليفها، النظام السوري، فقد سكب ماء بارداً على الأشواق الإيرانية بعلاقات مع مصر، تغير من خلالها موازين القوى في المنطقة. بغض النظر عن بعض الأخطاء اللغوية والرتابة في الإلقاء، فقد كان لمصر رئيس (المخلوع مبارك) لا يتحرك فلا يصيب أبداً، وأصبح لديها رئيس يتحرك فيخطئ ويصيب! ------------------------------------------------------------------------------------- الدكتور مصطفى اللباد رئيس مركز الشرق للدراسات الإقليمية والاستراتيجية - القاهرة.