لم تكن الثورة حدثا قاصرا على ميادين الحضارة أو الاقتصاد أو المجتمع أو السياسة. فكل ثورة حقيقية هي عضو في أسرة كبيرة تتميز بسمات الإيمان، والشعور المتضخم بالقوة والأهمية، والعدوان، والرغبة العارمة، والتضحية والموت هذه المشاعر التي هي أبعد ما تكون عن نطاق المصلحة والوجود. وأي شخص كان له دور في ثورة أو تابع تطورها عن قرب، يستطيع أن يؤكد وجود هذه الملامح الأخلاقية. إنه يرى الثورة كقصيدة ملحمية، وليس فقط مجرد تدمير آلي أو تغيير بسيط في الآلة الحاكمة. هذا يفسر لنا مثلا عجز العمال في الدول الرأسمالية عن الثورة، كما يفسر من ناحية أخرى حماس الشعراء والفنانين والمتدينين للثورة، التي قد تبدو ملحدة عند إعلانها. ولكن، إذا نظرنا إلى الثورة من الداخل، لا باعتبارها عملية ولكن باعتبارها جزءا من الحياة، فستبدو لنا كالدراما التي تؤثر في الناس تأثير الأديان. أما إذا نُظر إليها من الخارج، أي من وجهة النظر السياسية الواقعية، فيمكن أن تتخذ صفة مختلفة وهدفا مختلفا. إن المجتمع الذي تسيطر عليه مشاعر التضامن والتضحية والمصير المشترك، فهو يعتبر في «حالة دينية». هذا هو مناخ «الحرارة العاطفية العالية» الذي يظهر في حالات الطوارئ وفي الاحتفالات الدينية عندما يجمع الناس شعور الأخوَّة والصداقة. إن المجتمع العاجز عن التدين، هو أيضا عاجز عن الثورة. والبلاد التي تمارس الحماس الثوري تمارس نوعا من المشاعر الدينية الحيّة. إن مشاعر الأخوة والتضامن والعدالة هي مشاعر دينية في صميم جوهرها، وإنما هي موجهة في ثورة لتحقيق العدالة والجنة على هذه الأرض. إن كلا من الدين والثورة يولدان في مخاض من الألم والمعاناة، ويحتضران في الرخاء والرفاهية والترف. حياة الدين والثورة تدوم بدوام النضال والجهاد، حتى إذا تحققا، يبدأ الموت يتسرب إليهما. ففي مرحلة التحقق في الواقع العملي يُنتجان مؤسسات وأبنية، وهذه المؤسسات نفسها هي التي تقضي عليهما في نهاية الأمر. فالمؤسسات الرسمية لا هي ثورية ولا هي دينية. فإن وجدنا خصوما للثورة في نطاق الدين، فهم خصوم ينتمون إلى الدين الرسمي فقط، أي إلى الكنيسة ونظامها الإداري الهرمي، أو الدين المؤسسي الزائف. وعلى العكس، فإن الثورة الزائفة أي الثورة التي تحولت إلى مؤسسة وإلى بيروقراطية، تجد دائما حليفها في الدين الذي تحول هو أيضا إلى مؤسسة وإلى بيروقراطية. فما أن تبدأ الثورة تكذب وتخدع نفسها حتى تمضي مع الدين المزيف يدا بيد.