تتكاثف دعوات التغيير وتتسارع عوامل النهوض فقط في لحظتي: الوحي, عندما ينبثق دين وليد, أو الثورة, عندما ينبثق وعي شهيد, فلا يمكن لواقع جديد أن يولد علي جثة الساد والمألوف إلا بواسطة شخصية استثنائية سواء من حاملي الرؤي المبشرين بما فوق عالمنا( الأنبياء), أو من حاملي السيف والفكر المبشرين بمستقبل أيامنا( الأبطال), فالوحي والسيف وحدهما قادران علي كسر المعتاد والمألوف, والخروج من أسر الكهوف. ويرجع ذلك إلي قدرتيهما علي توليد نوع من النشوة الوجدانية, التي تصدر عن باطن إنسان أشرقت روحه, إما بالحضور القدسي لقوة علوية متسامية علي الوجود, تحمل اسم( الله), وإما بحضور دنيوي لفكرة سارية في باطن الوعي مثل( الحرية), ففي الثورة, كما في الدين, تبلغ البصيرة الإنسانية ذروتها, من خلال إحساسها بالاكتمال والتوحد مع السر الوجودي المطلق لكلتيهما: الله أو الحرية, حيث يصير الكل في واحد وتتحقق الفعالية القصوي للشخصية الإنسانية بخروجها من دائرة الخبرة العادية بحيزها المحدود, وفعاليتها الجزئية, إلي خبرة جديدة استثنائية تبلغ معها الرؤية ذروة صفائها, والإرادة منتهي كمالها, والتضحية أقصي حدودها, حيث يتساوي الموت مع الحياة, والوجود مع العدم. يفترض هنا أن تكون الثورة نقية, وهي لا تكون كذلك إلا إذا دارت حول مثل عليا, تكاد تطاول المطلقات الدينية, كالحرية والعدالة والمساواة والإخاء الإنساني, يبدو الموت من أجلها, لدي الثائر, أفضل من الحياة بدونها, كما يموت المؤمن لأجل دينه سعيدا مستبشرا لأن الموت مع الإيمان خلود للإنسان, والحياة من دونه فناء في الزمان; فالحماس الثوري إذن هو مشاعر دينية في الصميم, لكنها أخذت طابعا دنيويا, فبدلا من انتظار المؤمنين الأبرار( الخجول) للحياة الفاضلة في الجنة أو ملكوت السماء, يسعي الثوار الأحرار إلي تجسيد تلك الحياة الفاضلة الآن, وعلي هذه الأرض. وهكذا تستعير الثورة من الدين روحانية الاستشهاد, بحسب قدرتها علي تمثل ما في الدين من قدرة علي إلهام الضمير الفردي, وتكتيل الإرادة الجماعية لقطاعات واسعة من البشر بتأثير مشاعر كالأخوة والصداقة, والتضامن والتضحية لأجل المصير المشترك, تلك المشاعر التي لا تتولد سوي في اللحظات الاستثنائية: كالثورات, والحروب, وأحيانا مباريات الكرة بين الأوطان, والتي تشبه كثيرا مشاعر التضامن الدينية التي تتجلي في العبادات والمناسك الجماعية, من زاوية كونها رابطا إنسانيا, ولاصقا اجتماعيا عميقا, إنها الأخلاقية الطهرانية التي يلهمها شعور الجميع إنهم أمام قضية كبري تستحق من كل منهم أن يسمو علي طبيعته, وأن يتجاوز نفسه في حالتها العادية فيما لم يكن ذلك ممكنا في زمن الركود والجمود. يستطيع الأنبياء والمصلحون إذن ترك بصمتهم علي التاريخ إلهاما وتوجيها, فيما الأبطال والثوار يحفرونها إصلاحا وتغييرا, ولذا كانت الثورة أحد أجل الأحداث التي تصوغ المجتمعات, وتصنع التاريخ, غير أن حيوية هذه اللحظة تتوقف علي كيفية بنائها. فإما أنها وحي فرد, ولو كان ملهما, نيابة عن أمة, فالكل هنا ليس سوي هذا الفرد, واللحظة إلي زوال لأن الفرد كذلك, علي منوال ثورة يوليو1952 م, التي عرفت مصر في ظلها لحظات عديدة مبدعة كانت فيها واحدا ولكن واحدها كان دائما فردا ملهما, ولم يكن أبدا مجتمعا مريدا, ولذا بقيت إبداعاتها متناثرة, وإنجازاتها متكسرة, لقد كان جمال عبد الناصر, مهما اختلف الناس معه, واحد من أولئك الذين اقتحموا التاريخ, ليعيدوا صياغة الواقع, فكان الفرد الذي جسد أمة ونفخ في روح شعب.. ولكنه رحل, وبرحيله تهاوي الجسد وانطفأت الروح. وإما أنها إبداع أمة, فالكل هنا هو تلك الأمة, واللحظة عندها إلي دوام لأن الأمة أيضا كذلك, علي منوال ثورة25 يناير, التي أنتجها شعب نسب إليه كثيرون ثقافة الخنوع, استنادا إلي أدبيات نظرية شائعة حول نمط الإنتاج الآسيوي أو المجتمع الهيدروليكي والدولة النهرية وجميعها تعني فرض الطبيعة الجغرافية لنوع من الحكومات متطرف في مركزيته, ونوع من المجتمعات متطرف في خضوعه, ما يجعل الروح الأبوية جوهرا للعقد بين السلطة والمجتمع, استمرأ المصريون معه الخنوع, إلي درجة وضعتهم في خصام مع التاريخ, لأنهم تخاصموا مع الحرية.. روح التاريخ. لقد فات علي هؤلاء التمييز بين كون المصريين مسالمين وتلك حقيقة مؤكدة, وبين كونهم راكدين, وذاك كذب صريح, فالثورة لدي المصريين فعل ممكن ولكن غير متعجل, ففي التريث حكمة تاريخ خطت مصر أولي سطوره, وفي التسرع طيش هوي نأت دوما عن نزواته, ولكنها ظلت قادرة علي العودة.. علي أن تثور وترتج عندما تتضح الرؤيا وينفد الصبر, عندما تنقشع ظلال الطيش, وتتبلور خيوط الحقيقة.. لا أمل فيما هو قائم. ولدت ثورة يناير بريئة كوجه طفل رضيع, واستمرت بيضاء كثوب عروس وديع, وإن لطخته بقع دماء في عتمة ليل أضاءه صخب الأمل, لقد بلغت من طهرانيتها, أن لم يكن قائدا لها, ولا إيديولوجيا تحكمها, فكانت بحق ثورة الروح علي نفسها, والكرامة علي نقيضها.. تكمن قيادتها في مثلها الرفيعة عن العدالة والحرية, والكرامة الإنسانية, تلك التي أعطتها حكمة النيل العظيم, وعناد الأهرامات الخالدة. أدي غياب القيادة إلي نجاح الثورة في إسقاط نظام قديم لم يجد أمامه ساعتها شخصا يساومه فيحرف إرادته, أو يهدده فيقتل حماسه, بل شعبا كاملا, استفاق من غفوته فصار عصيا علي الإغراء وعلي الخوف, طالب بحريته فنالها, غير أن ذلك الغياب قد عاد ليفعل فعله بالسلب, فالأمم لا تحيا علي الهتاف, ولا تقتات بالشعارات, والمستقبل لا ينهض علي مجرد تحطيم القيود وإسقاط النظم, بل علي بناء الدول وصنع الأمل. ولغياب البطل وعجز القيادة, تأخر قطار المستقبل عن الانطلاق, فثمة معارج كثر أغمت علي الطريق, وقراصين كثر استعدوا للقنص, وزعامات زائفة تصدرت المشهد, ومسالك فوضي تبدت كمتاهات ليل, حتي جاء العيد الثاني لتلك الثورة البريئة وهي مغدورة, رهينة اختطفها الغرباء من عائلتها الأصلية, وغاياتها الحقيقية, غير أنها حتما ستعود, وتصل غاياتها, بفعل طهارة الروح التي حركتها, ونبل الغاية التي أطلقتها, وبرعاية إله حق يأبي أن يتحدث أحد باسمه مدعيا قداسة زائفة, أو يزايد أحد علي عباده ملتحفا بكهانة بائدة. المزيد من مقالات صلاح سالم