حركة الاحتجاج العالمية ضد توحش الرأسمالية والتي اندلعت مؤخرا في نيويورك بعنوان "احتلوا وول ستريت"، وانتشرت في مئات من مدن العالم، خاصة في شوارع أوروبة الغربية، أعادت إلى ساحة التداول والنقاش السياقات التاريخية التي نشأت فيها الراسمالية الغربية الراهنة، وجذورها غير الإنسانية، والتي شكلت أسوأ حقب التاريخ الإنساني. وكان المؤرخ الاقتصادي البريطاني نيال فرغسون قد أصدر كتابه الذائع "صعود المال: التاريخ المالي للعالم" في سياق الأزمة المالية العالمية التي اندلعت أواخر 2008، بعيد انفجار فقاعة ديون الرهن العقاري الأميركي، محاولا تقديم العناصر الصلبة والتاريخية في نظام التمويل الرأسمالي، وإعادة الثقة في الرأسمالية كمنظومة وطريقة في تنظيم المجتمع والاقتصاد. يقدم كتاب فِرغسون تاريخاً لستة مكونات حاسمة للرأسمالية الحديثة، والمنافع التي تدرها ونتائج تحقُّقها. يلخص المؤلف فهمه لنظام التمويل الرأسمالي، ويجلّي من خلال ذلك تطور الرأسمالية وعناصر قوتها وإمكاناتها، كما أنه يحذر من خطورة إغفال مبادئ الاقتصاد الأساسية. والحقيقة أنه من الأهمية بمكان فهم واستيعاب ليس فقط النظام المالي الغربي، بل كذلك الإطار الفكري الذي يقدم مبررات هذا النظام القيمي، ويدافع عن منافع الراسمالية؛ في حين يهمش المذاهب والمبادئ الاقتصادية الأخرى. وبرغم أن الأفكار والسياسات التي يناقشها أو يبررها فرغسون لها انعكاساتها وعواقبها على المجتمعات الأخرى غير الرأسمالية، لكن من الواضح أنها ليس لها اعتبار لديه؛ بل إنه لا يعير اهتماما للنظريات الاقتصادية الغربية الأخرى، سواء تلك الواقعة ضمن الرأسمالية كالنظرية الاقتصادية الكينزية (لورد جون مينرد كينز)، التي رُذِّلت وهُجرت - منذ صعود ريغان وتاتشر في أوائل الثمانينات- لصالح اقتصاديات جانب العرض (اقتصاد السوق)، كما أنه لا يعير اهتماما تلك النظريات الغربية المسماة ماركسية أو اشتراكية أو فوضوية. من المفارقات الهامة في سياق هذا الموضوع أن التاريخ الاقتصادي الألماني – مثلا- يقدم خبرة في النهوض الاقتصادي والثورة الصناعية تغاير تماما الخبرة الأنگلوسكسونية؛ ولعب فيها البنك الألماني ومدخرات الشعب دورا رئيسا في التصنيع والتطور، إضافة إلى مفاهيم الاجتماع الألماني "التراحمي" كنقيض للاجتماع "التعاقدي" (الرأسمالي المادي الأنگلوسكسوني). لم يكن حتما على الاقتصاد الألماني أن يمر بمرحلة النهب الاستعماري أو ما يسمى بالمرحلة المركنتيلية (التجارية)، بحسبانها في الخبرة الأنكلوسكسونية شرطا تاريخيا محتما لمراكمة الثروة ورأس المال الضروري لقيام الثورة الصناعية. وهذا بدوره يدحض القول بحتمية المسار الرأسمالي الأنكلوسكسوني في تنظيم المجتمعات وتنمية الثروات وتوسيع الاقتصادات. بل إن النظام الرأسمالي ومنظومته القيمية والعملية المسيطرة الآن على الغرب وأنحاء أخرى من العالم، لم يكونا منذ قرنين موجودين في أي مكان من العالم، وكانا أبعد ما يكونا عن القارة الأوروبية. كذلك، غالبا ما يتجاهل فرغسون العلاقة الوثيقة والجدلية (التفاعلية) بين الظاهرة الرأسمالية والامبريالية؛ فالرأسمالية استغلالية بل متغولة بطبيعتها ولا تخضع لأي ضوابط أو توازنات، كالتي تخضع لها مثلا الدولة القومية الحديثة من خلال مبدأ فصل السلطات وتحديد الصلاحيات ومنع الجمع بين المصالح المتعارضة. بل إن الراسمالية ممثلة بمؤسساتها ومموليها ومواردها لها منطق مهيمن على الموارد الطبيعية والبشرية والأسواق والدول الحديثة وآلياتها الديمقراطية والدستورية. ولئن كانت مقولة لينين: "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" تستبطن فرضية أن للرأسمالية عالمها الخاص المركب وآليات حراكها وتفاعلاتها أو جدلياتها التاريخية وأنماط تطورها وصيرورتها وربما لاهوتها الخاص؛ إلا أن الخبرة التاريخية السابقة واللاحقة على قيام ظاهرة الرأسمالية، والأنكلوسكسونية منها بشكل خاص، لا تبرر توصيف هذه الظاهرة بذلك التعقيد البنيوي شبه اللاهوتي. فالحقيقة أنه لولا ما يسمى بحركة الكشوف الجغرافية والاستيطان الأوروبي الذي رافقها، واستغلال عشرات الملايين من العبيد الذين تم استرقاقهم وجلبهم من الساحل الغربي لأفريقية، وملايين أخرى من الآسيويين الذين شحنوا من شبه القارة الهندية وجزر الهند الشرقية وبلاد الهند الصينية وساقتهم حظوظهم العاثرة إلى المستعمرات الأوروبية في أفريقية والكاريبي والأميركتين لزراعة القطن وقصب السكر واستخراج الذهب والمعادن والفحم وخدمة حروب الإبادة التوسعية ضد سكان المستعمرات الأصليين، لما أمكن للأنكلوسكسون وغيرهم أن يراكموا الثروات التي أتاحت تطوير وقيام الثورة الصناعية كقاعدة أساسية للرأسمالية. فالرأسمالية هي محصلة لمختلف مراحل وأنماط نهب الثروة من الأطراف (المستعمرات) في آسية وأفريقية والأميركتين إلى مراكز الإمبراطوريات الأوروبية. بل إن شركة الهند الشرقية الانكليزية، النجم الأكثر سطوعا بين نظيراتها الأوروبيات (الأسبانية والبرتغالية والهولندية والفرنسية) في المرحلة المركنتيلية، قد امتلكت جيوشا من المرتزقة وخاضت حروبا لا هوادة فيها ضد الهنود في القرن الثامن عشر، وسيطرت على المستعمرات خدمة لأهدافها الاقتصادية الاستعمارية (النهب). بل إن بنية أو تشكيل أو تنظيم هذه الشركة أصبح مثلا يحتذى أو نموذجا لتشكيل المنظمة أو المؤسسة الأوروبية الحديثة في مختلف المجالات من بيروقراطية الدولة إلى الأحزاب السياسية والمؤسسات الاجتماعية. فتعبيرات مثل "الجمعية العامة" General Assembly و"اللجنة المركزية" Central Committee و"المكتب السياسي" Politburo و"السكرتير العام أو الأمين العام" Secretary-General، تجد جذورها في تنظيمات وتكوينات شركة الهند الشرقية الانكليزية. أما فائض القيمة الذي يفترض في التحليل الماركسي الكلاسيكي، ورددته الأحزاب الشيوعية الموسكوڤية في البلاد العربية منذ عشرينات القرن الماضي، أنه قد وقع تاريخيا على الأرض الأوروبية، أي في الحقول أو المناجم أو المصانع الأوروبية (بانكلترة واسكنلندة وويلز مثلا)، وتراكم ذلك الفائض ثروة ورساميلا ضخمة لصالح الإقطاعي أو المستثمر أو الرأسمالي الأوروبي، فقد سبقه فائض قيمة آخر أو بالأحرى فائض الدم والعرق والمصير الإنساني المنهوب من مئات الملايين من العبيد والأقنان وعمال السخرة والكادحين في مزارع قصب السكر بمستعمرات جزر البحر الكاريبي وأميركا الوسطى وحقول القطن بولايات الجنوب الأميركي ومناجم الذهب والفحم الحجري بأنحاء الأميركتين، ومشروعات مد خطوط السكك الحديدية من شرق القارة إلى غربها، ومشروعات متروبوليتان الأنفاق في لندنونيويورك. هذه الرؤية التاريخية ليست إنكارا لما تعرضت له الطبقة العاملة الأوروبية من مآس واستغلال وعسف على يد الصناعيين الأوروبيين، خاصة في القرن الأول من الثورة الصناعية وسجلها بامتياز الأديب الانگليزي الكبير تشارلز جون ديكنز في عدد من روائعه، مثل رواية أوليفر تويست. بل تذكر مصادر التاريخ الأوروبي أن بعض العمال الأوروبيين قد نظموا آنذاك حركات مقاومة تهاجم المصانع وتقوم بتخريبها وتدمير أدواتها وآلاتها وأفرانها التي كان العمال يعانون من تشغيلها الأمرين، ويموتون تسمما من استنشاق الغازات السامة المتراكمة في مداخن المصانع عند تنظيفها. لذلك، ربما كان من الأحصف عكس مقولة زعيم الثورة البلشفية ومؤسس الاتحاد السوفياتي السابق، فلاديمير أيليتش لينين، حول علاقة الظاهرة الرأسمالية بالمشروع الاستعماري الامبريالي من "الامبريالية أعلى مراحل الرأسمالية" إلى "الرأسمالية أعلى مراحل أو نتائج أو جرائم الامبريالية".