\r\n فبعد أن عانت روسيا طوال أكثر من سبعين عاما من أكثر الديكتاتوريات خزيا في التاريخ، مات خلالها ملايين عديدة من المدنيين الأبرياء في معسكرات الاعتقال السيبيرية «الجولاج» جراء هذيان أسياد الكرملين. وبعد الخروج من صدمة انهيار الاتحاد السوفييتي، ها هي الفوضى تعم البلاد عوضا عن الحرية وتسيطر على مقاليد الأمور طغمة اقتصادية وسياسية حماتها هم مفوضون شيوعيون سابقون ارتكبوا زعرنات مدوخة وقاموا ب «خصخصة» الصناعات الحكومية الكبرى وجيروها لصالحهم، \r\n \r\n \r\n سامحين للعصابات بأن تخرج من البلاد باتجاه الجنان المالية في العالم المليارات من العملات الصعبة المكتسبة بطرق غير مشروعة والمسروقة من الشعب الروسي، الذي رأى بهذه الطريقة مستويات معيشته تنخفض أكثر من أي وقت مضى، وأصبح أبناؤه يعيشون في ظل حالة من انعدام الأمن والأمان والخوف المزمن. \r\n \r\n \r\n ليس غريبا أن يستحوذ فلاديمير بوتين، العميل السابق في جهاز الكي جي بي، الذي يعد الهيئة الأكثر شؤما في النظام القديم والمسؤول عن أكثر الجرائم فظاعة، باعتلائه سدة الحكم، على النظام ويتصرف على هواه بسلطة تمثل العمود الفقري لسياسته، فذلك أكثر ما رغب به مواطنوه في بلد سادت فيه اللاشرعية أينما كان وفعل المجرمون والقتلة ما يحلو لهم دون أي عقاب تقريبا. \r\n \r\n \r\n وبوتين فرض النظام عمليا آخذا بعين الاعتبار الكثير من الأعمال الإجرامية وأرسى تقاليد نظام شمولي رأسي تمكن من خلال أقنعة أيديولوجية متعددة و بعض الخطوات الانفتاحية العابرة والمتباعدة من الاستمرار في حكم روسيا منذ إيفان الرهيب حتى الوقت الحاضر. \r\n \r\n \r\n والشعب الروسي الذي لم يعرف شيئا آخر غير الاستبداد على مدار تاريخه يشعر بأنه مرتاح أو،على الأقل، منشرح الصدر ومتفائل في روسيا في ظل حكم بوتين، الذي أكد على شعبيته الهائلة بفوز حزبه في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. والأقليات الشجاعة لا تزال تعمل، في ظل ظروف قمعية متنامية، لصالح الديمقراطية وحقوق الإنسان \r\n \r\n \r\n وهي تعزز قوتها عن طريق اطلاع بقية العالم على الانتهاكات اليومية للحريات والقانون التي يقترفها النظام، لكنها تحاصر ويضيق الخناق عليها بصورة متزايدة من خلال الرقابة، والمضايقة، والعقوبات الاقتصادية، والمحاكم الجزائية وحتى عمليات القتل في حالات متطرفة- وكل شيء يشير إلى أن هذا الوضع لا يمكن إلا أن يشهد المزيد من التدهور بالنسبة لها في المستقبل المنظور. \r\n \r\n \r\n في الخارج تعرف الخطوط العريضة للسياسة المتبعة من قبل بوتين ومجموعة عملاء الكي جي بي السابقين المحيطين به بغية إعادة إنشاء السلطة الشمولية هناك، ففي المقام الأول، هناك مسألة بسط سلطة الدولة أو تحييد جزء لا بأس به من وسائل الإعلام المستقلة، التي تعمل الآن في خدمة الحكومة وتأميم كيانات رئيسية مسؤولة عن الطاقة، بحيث تعيد، بهذه الطريقة، \r\n \r\n \r\n ما تسمى «الصناعات الإستراتيجية» إلى الدولة الهيمنة على الحياة الاقتصادية للبلاد. صحيح أن هناك قطاعا صناعيا بقي خارج سيطرة الدولة، لكن بشرط الخضوع لتبعية مطلقة لاملاءات السلطة. ولقد أعطت الاحتياطيات الهائلة من الغاز والنفط التي يكنزها البلد والأسعار المرتفعة جدا التي بلغتها الأسواق العالمية أعطت الحكومة الروسية أداة ناجعة لمضاعفة تأثيرها الدولي وقهر جيرانها واستعادة سباق تسلح يبهج القوات المسلحة، \r\n \r\n \r\n التي تذكرت مكانتها القديمة في مؤسسة تحظى بامتياز داخل النظام وتسليط سيف «داموكليس» على رقبة أوروبا الغربية، وذلك عن طريق التهديد بخفض أو قطع إمدادات النفط والغاز عن تلك الدول التي قد تتبنى سياسات تعتبرها روسيا مضرة بأمنها. \r\n \r\n \r\n لا يعرف الكثير، في المقابل، عن عنصر آخر أكثر قتامة وعنفا في سياسة بوتين ويتمثل في النزعة القومية التي يقوم بتحريكها ليوجد بهذه الطريقة الشعور بالوحدة الوطنية لمحاربة الأعداء الداخليين والخارجيين والوقوف في وجه العواقب الحتمية لأيديولوجية مماثلة هي الأيديولوجية النازية وأيديولوجية كره الأجانب. \r\n \r\n \r\n ولقد لفت نظري مقالان رائعان نشرا في صحيفة «انترناشونال هيرالد تربيون» في أغسطس الماضي، لجيف ماكوف وبول كيندي، وكلاهما من جامعة «يال» حسنة السمعة، و يعرفان تماماً عما يتكلمان. \r\n \r\n \r\n يوضح مانكوف، بقائمة قصيرة من الأمثلة، أطروحته التي تقول إن «العنصرية العنيفة» السائدة اليوم في المجتمع الروسي لا يمكن أن تواصل نموها إلا بفعل الطريقة التي تستخدم فيها الدولة كراهية الأجانب لتحقيق مقاصدها. \r\n \r\n \r\n فهناك عصابة من الرؤوس الحليقة قتلت طفلة طاجيكية وأصابت عائلتها بجروح خطيرة في سان بطرسبرغ وقامت بطعن فيتنامية بالسكاكين حتى الموت و حفنة من النازيين الجدد قامت بطعن ثمانية أشخاص في إحدى دور العبادة في موسكو. \r\n \r\n \r\n كما يظهر شريط فيديو جال العالم بأسره كيف قام شخصان روسيان بإعدام قوقازي وآخر طاجيكي وذلك بإطلاق النار على الأول وقطع رأس الثاني، في حين جاءت الأحكام القضائية بحق مرتكبي هذه الجرائم مخففة ومن دون أن يعترف هؤلاء بالطبيعة العنصرية للجريمة. \r\n \r\n \r\n كما يصف مانكوف الطريقة التي استخدم بوتين من خلالها الحزبين النازيين على المكشوف، اللذان يعملان في روسيا بقيادة كل من فلاديمير زيرينوفسكي ورودينو ديمتري روغوزين وكيف قام بتمويلهما ومساعدتهما على الانتشار بهدف خلق انطباع بأن حزب بوتين الحاكم هو حزب معتدل ويقف على طرفي نقيض من الأحزاب المتشددة. \r\n \r\n \r\n لكن نتيجة هذه السياسة تمثلت في أن العنصرية ضد المهاجرين سمر البشرة من جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابقة، وغالبيتهم من المسلمين، أخذت بعدا تشريعيا في الحياة العامة. ولذلك لم يظهر أدنى احتجاج عندما قامت الحكومة الروسية، في أبريل الماضي، بحظر عمل جميع المهاجرين القادمين من القوقاز في تجارة الأقمشة في روسيا. \r\n \r\n \r\n من جانبه، ينظر المؤرخ بول كيندي بعين الارتياب إلى خطة غرس العقائد التي تنفذها الحكومة الروسية بين الشبان، متبعة نموذجا يشبه إلى حد كبير النموذج السوفييتي مع فارق بسيط يتعلق بأن الأفكار المراد زرعها في أذهان الأجيال الحالية من الشباب تتعلق بنزعة قومية روسية متشددة تقوم على كراهية الأجانب. \r\n \r\n \r\n ولقد أنشأت حكومة بوتين حركة شبابية تدعى «ما هو لنا» وهي تنمو بسرعة كبيرة وتقوم على أسس أيديولوجية تنطلق من الدفاع عن الوطن الأم والتقاليد الروسية وكذلك نبذ كل ما هو أجنبي، ولقد باتت أعداد أعضاء هذه الحركة تعد بعشرات الألوف من الناشطين الذين يعملون عمليا كقوات ضاربة دفاعا عن بوتين وحكومته وضد منتقديهما. \r\n \r\n \r\n كما يقوم بول كيندي بتحليل بعض النصوص الأيديولوجية الموزعة في المدارس من قبل الحكومة والتي تحتوي على تعديل للتاريخ الروسي الحديث بغية تكييفه مع احتياجات النظام. ويعلم من خلالها الشبان على سبيل المثال، أن «الانضمام إلى نادي البلدان الديمقراطية يستلزم تسليم السيادة الوطنية إلى الولاياتالمتحدة». \r\n \r\n \r\n هل سيفعل بوتين ما يحلو له وينشئ المزيد من الهياكل التنظيمية التي تضمن العمر المديد لنظامه؟ ربما كانت الإجابة هي النفي على المدى البعيد، لأن التاريخ علمنا أن الإمبراطوريات الشمولية، مهما بدت راسخة، لها أرجل من طين وآيلة إلى السقوط دائما بفعل عجزها وفسادها. لكن على المدى القصير، يبدو أن لا شيء قادر على الوقوف في وجه جاسوس سابق عرف كيف يكسب دعم جزء لا بأس به من الشعب الروسي. \r\n \r\n \r\n خلاصة القول هي إن الديمقراطية تحتاج، كي تنتشر وتتطور، إلى الحد الأدنى من القاعدة المؤسسية كتلك التي كانت موجودة في بولندا وفي المجر وجمهورية التشيك ساعة انهيار الاتحاد السوفييتي، وهذا ما جعل الديمقراطية تصمد في هذه البلدان. لكن في روسيا لم تكن متوفرة تلك القاعدة وبالتالي فإن الديمقراطية تحولت هناك إلى فجور لا يلبث أن يزول. \r\n \r\n \r\n