كتبت حتى الآن ملايين الكلمات عن نزهة فاليري بالم، التي كانت تنفذ مهمات لوكالة الاستخبارات الأمريكية وهي زوجة جو ويلسون الذي غمز من قناة مزاعم إدارة بوش بأن عراق صدام حسين كان قاب قوسين أو أدنى من حيازة قدرات نووية. وها قد أمضى المدعي العام باتريك فتزجيرالد المنتدب خصيصاً للتحقيق في هذه القضية شهوراً متطاولة حتى الآن. كما زج بالمراسلة الصحافية جوديث ميلر التي تعمل لحساب صحيفة "النيويورك تايمز" في السجن لامتناعها عن الاجابة عن أسئلة فتزجيرالد. ويتهدد كبير مستشاري بوش السياسيين كارل روف خطر المثول أمام القضاء وإدانته بتهمة الكذب على فتزجيرالد وقد جرت بالفعل تعريته بصفته كاذباً. \r\n \r\n وهذه كلها أحداث كبيرة، غير انه، في نهاية المطاف، وبعد كل هذه الشهور أجد صعوبة في فهم ما تدور حوله الحكاية برمتها ويعسر عليّ تناول فضيحة بالم بجدية. \r\n \r\n ويشيع الافتراض بأن فاليري بالم انما افتضح أمرها وكشف عن انها عميلة ال "سي. آي. ايه" لأن البيت الأبيض أراد الثأر من زوجها الذي أوهى ذرائع بوش وأضعف حجمه. لكن الذي أعياني فهمه على الاطلاق وعجزت عن إدراكه هو كيف ان هذه التعرية إنما كان القصد منها النيل من ويلسون والاضرار به. \r\n \r\n في أوساط اليساريين، او على الأقل عندما كان هناك يسار جاد، كان مما يدمر مصداقية المرء ان يوصم بأنه عميل ال "سي. آي. ايه". \r\n \r\n غير اننا لا نتحدث هنا او نتعامل مع أوساط يسارية، فالنقاش يتمحور حول دوائر يمينية ترى ان مما يشرف المرء انتسابه لوكالة الاستخبارات الأمريكية، فعمالته لل "سي. آي. ايه" وسام فخار يباهي به، وويلسون هذا، برغم كل شعبيته وارتفاع أسهمه في أوساط الليبراليين هذه الأيام، يميني ليس إلا، بل ومغرق في يمينيته حرّض على غزو العراق وباركه فلماذا لا يكون الكشف عن الجهة التي تشتغل زوجته فاليري لحسابها قد ارتقى بمقاديره وزاده حظوة ومنزلة؟ \r\n \r\n ومرة أخرى أطرح السؤال، لماذا افترض ان مما يزري بمنزلة ويسلون ويلطخه بالخزي ان تقترحه زوجته وترشحه بصفته الشخص الملائم ليذهب الى النيجر ويحقق في التهم والشبهات التي تحوم حول ان هذا البلد يصدر اليورانيوم الانشطاري الى العراق؟ \r\n \r\n ولا بد من القول اجابة عن هذا التساؤل إن ويلسون لم يضر ولم يلحق به أذى جراء هذا، بل كان البيت الأبيض هو الذي ألحق بنفسه الأذى. لم تكن رحلة بالم بالخطب الجلل، ولم تكن حتى من النواحي الفنية جناية يعاقب عليها الى ان أقحم كبار مستشاري بوش أنفسهم وراحوا يدفعون بتشريع حماية عملاء الأجهزة الأمنية ويتخذونه أداة انتقام من اليساريين الذين سعوا حقيقة لإلحاق الضرر ب "السي. آي. ايه" وذلك بكشف عملائها السريين. \r\n \r\n ولقد أظهرت الفضيحة مدى الغباء المطبق لدى العملاء الكبار من أمثال روف وزملائه في البيت الأبيض. \r\n \r\n فإذا ما نفذنا الى جوهر الأمور فإن إدارة بوش ينبغي ان تترنح تحت وطأة الهجوم الشرس وذلك لمجرد اخفاقها الكامل والمزري في مهمتها في العراق. ومع ذلك فإن التردي في هوة هذا الاخفاق السحيقة والانهيار التام لخطة الولاياتالمتحدة في العراق لا يفسح له الإعلام الأمريكي ما يستحقه من مكان ولا يظهر سوى النزر اليسير جداً والمخفف من بشاعاته، والبركة في هذا والفضل انما هو للفطناء الحكماء من مراسلين ومحررين. \r\n \r\n فحقيقة ان أمريكا تواجه إذلالاً قومياً بالغ الفظاعة ويوشك ان يمرغ هيبتها في الوحل ويجعلها تجر ذيول العار كما صنعت في فيتنام لا تحظى بالنقاش وتكاد تكون مغيبة عن المشهد تماماً مع ان النذر تتضافر وتترى لتخوف من مثل هذا المصير، والحركة المناهضة للحرب ما زالت تتعثر وتعرج في مشيتها فيما يستميت الحزب الديمقراطي ليبدو انه معارضة "موالية". وكثير من زعماء الحزب لا ينادون بوضع حدد للحرب بل بزيادة عدد القوات التي تخوض الحرب وتزويدها بسلاح أشد فتكاً وعتاد أكثر، فهم يطالبون بحرب ضروس أشد شراسة. \r\n \r\n ويكاد التيار الرئيسي في الإعلام يتعامى بشكل كامل عن امارات الهزيمة النكراء التي توشك ان تمنى بها أمريكا ويمضي في جدل عقيم حول ضرورة مضاعفة الجهد الحربي، متناسياً ان هذه الحرب في أساسها كانت غير شرعية. وهكذا تصبح فضيحة بالم بؤرة الهجوم ومرتكزه لأن الأسباب الحقيقية اعتبرت على درجة عالية من إثارة النزاعات تحول دون الكشف عنها وعرضها على الملأ. \r\n \r\n وهذا هو في الأغلب شأن الفضائح وديدنها. فثمة عالم رحب خفي منبث في ثنايا الحياة السياسية ولا يمكن البوح بأسراره والافصاح عنه، لأن التفوه بأي شيء جوهري سيكون بمثابة نسف لمواثيق عدم الاعتداء غير المعلنة تلك التي تدعم النخب الحاكمة وتنصرها وتشد أزرها. \r\n \r\n وثمة ميثاق عدم اعتداء تعاهدت عليه النخب في الولاياتالمتحدة وتواصت ببنوده علية القوم وصفوة رجالات أمريكا ميثاق بشأن "اسرائيل" يمنحها الحصانة ويحرّم مناقشة عواقب احتضان الولاياتالمتحدة لها وكفالتها التامة لها ورعاية ونصرة كل مشاريعها ومغامراتها التي يندى جبين البشرية من أكثرها. فهذا الموضوع، وببساطة لا يمكن ان يطرح. ويصح الأمر ذاته على كثير من الجوانب الحيوية الأخرى المتعلقة بأمريكا من بينها: التجارة والسياسة النووية والاشراف على مجلس الاحتياطي ونظامه المؤلف من 12 بنكاً، وغيرها كثير. \r\n \r\n \r\n \r\n * كاتب صحافي ومحلل سياسي \r\n \r\n يرأس تحرير "الكاونتر بانش" \r\n