وبعد عامين ونصف العام من ذلك، قام ذلك الشخص نفسه بإطلاق النار على المخرج السينمائي الهولندي ثيو فان غوخ في أحد شوارع أمستردام، قبل ان يقطع عنقه بسكين ويضع على صدره رسالة من خمس صفحات جاء فيها; ان الإسلام يعود ب«إعادة الشيطان إلى حفرته المظلمة بواسطة السيف». كان تحول بويري من شخص يعمل لصالح الجالية المغربية إلى إرهابي مفترض، سريعا ومحيرا جدا سواء للأصدقاء او المعلمين او زملائه في العمل. والكثير من هؤلاء وصفه بأنه شخص ودي وطالب جيد، فهو مثل الكثير من أبناء جيله وجد نفسه بين قيم أسرته المغربية المهاجرة وقيم المجتمع الهولندي. \r\n في البداية، عمل بويري بحماسة شديدة لتصريف مشاعر الإحباط التي تغلي بين أوساط الشبان المسلمين وتحويلها إلى برامج إيجابية. لكنه وبشكل متزايد بدأ يتحول نحو التطرف الديني ليبدأ بمهاجمة أشخاص بحجة أنهم معادون للإسلام، ثم أصبح جزءا من مجموعة صغيرة من المتطرفين تحت نفوذ ناشط سوري يعرف باسم أبو الخطيب، حسبما أفادت مصادر بالاستخبارات الهولندية. وبعد تنفيذه عملية القتل في ذلك الصباح،اعتقل بعد مواجهة مع قوات الأمن، وعثر في جيبه على ورقة تشير إلى رغبته في «الاستشهاد». ويبدوا أن المحققين الهولنديين مقتنعون بأن بويري لم يقم بذلك لوحده وأنه كان جزءا من مؤامرة أكبر لمتطرفين يريدون أن يقتلوا برلمانيين آخرين وجهوا انتقادات للإسلام. ومنذ مقتل فان غوخ اعتقلت الشرطة نحو 10 أشخاص من نفس المجموعة، التي تعتقد الشرطة بأن لديها صلات بمتطرفين آخرين في أوروبا. \r\n ينتمي والدا بويري إلى ذلك الجيل من المهاجرين المغاربة والأتراك الذين تدفقوا في الستينات والسبعينات من القرن الماضي للعمل في هولندا المزدهرة اقتصاديا آنذاك. كل الأطفال في هذه الأسرة ولدوا في أمستردام. وهناك حاليا في هولندا نحو مليون مسلم ويقدر معدل تكاثرهم بالضعف قياسا بسكان هولندا الأصليين. \r\n ويتذكر محمد الدردور رئيس المركز الثقافي والاجتماعي الإسلامي، المتميز باعتداله والذي تفصل بينه وبين منزل بويري عمارتان، كيف جاء هذا الأخير مع والده في صغره لأداء الصلاة. وقال الدردور «أنا أعرف والده وتحدثت مع الجيران. الجميع قالوا إنه ولد جيد». \r\n بين سني الثانية عشرة والسابعة عشرة تابع بويري دراسته في ثانوية موندريان القريبة من منزله. وقال كور ميير المتحدث باسم المدرسة إنه قام بسحب ملف بويري وتحدث مع المدرسين بشأنه. وأضاف: «كان طالبا يحصل على الدرجة بي»، مشيراً الى انه كان يعمل بجد وتمكن من إنهاء الثانوية خلال خمسة أعوام قبل ان ينتقل الى معهد تقني. وقال انه كان شخصا هادئا ومتعاونا للغاية، و«عندما سألنا المدرسين ما إذا كان قصّر في شيء، كان الجواب بالنفي». \r\n وقال المتحدث باسم المدرسة إن المدرسين أشاروا إلى وجود مشاكل ضمن أسرة بويري، اذ تمردت واحدة من أخواته الثلاث على قيود الأسرة المتشددة. وهذا أمر ليس غريبا، اذ ان ما يتعلمه التلاميذ من أصل مغربي من معلومات في المدرسة لا يتماشى دائما مع ما يتعلمونه في البيت. وخلال دراسته المحاسبة، كان بويري يقضي وقتا طويلا في شوارع منطقة سلوتفارت. وذكر اصدقاؤه لصحيفة محلية انه القي القبض عليه مرة وسجن لمدة 7 أشهر لجرائم متعلقة بالعنف. وتبحث وزارة العدل الهولندية عن وثائق تتعلق بتلك الجريمة، لكن يحتمل ان يكون جرى محوها طبقا لقوانين الخصوصية. \r\n وأعرب بعض الأصدقاء عن اعتقادهم بان بويري بدأ يتحول الى التشدد الديني خلال الفترة التي قضاها في السجن. بينما ذكر آخرون أن وفاة والدته بعد إصابتها بسرطان الثدي لعب دورا في ذلك. وقد عاد الى الحي وانضم للمدرسة لدراسة الرعاية الاجتماعية وبدأ القيام بعمل تطوعي في مركز «ايغنوكس». ويتذكر ايتجي دي فيلدي، وهو عامل اجتماعي في «ايغنوكس»، تنظيم بويري اجتماعا سياسيا تحدثت خلاله القيادات الإسلامية مع ما يتراوح بين 60 الى 70 شخصاً في فبراير (شباط) 2002. وذكر العديد من الشبان انهم شعروا بالعزلة خارج نطاق الجالية المغربية. وعبر بويري فيما بعد عن سعادته للطريقة التي جرى بها الاجتماع. \r\n وبعد ذلك، نظم بويري حملة لتنظيف الحي ودورة في كرة القدم لعب فيها الشبان ضد ضباط الشرطة. كما اعد خطة طموحة لمركز جديد للشباب. وزار البرلمان ومجلس بلدية امستردام لتمويل المركز، الا ان ذلك لم يتحقق. \r\n وفي الوقت ذاته تعمقت مشاعره الدينية. فقد توقف عن ارتداء الملابس الغربية، وبدأ في ارتداء الجلباب والطاقية. واعترض عندما قدم مركز الشباب الجعة خلال المناسبات، وكان ينصح النساء بالعدول عن حضور الاجتماعات التي ينظمها. ولم تكن هذه الأمور مقبولة من العاملين في المركز الاجتماعي. واخيرا توقف عن التوجه الى المركز قبل ان يغادر الحي بأكمله وينتقل الى العيش في وسط امستردام. وكانت كتابته في مطبوعة «عبر الأفق» تعكس تطوره. فأول مقالاته كانت تدافع عن التسامح والاحترام المتبادل. وبحلول ابريل (نيسان) 2003 اصبحت كتاباته تجريدية ومتشنجة. وفي مقالة بعنوان «الإسلام والاندماج» كتب ان الإخلاص للإسلام هو قمة المثالية. وعندما ترك بويري الحي، فقد اتصالاته بالعديد من أصدقائه القدامى. وترك الدراسة وبدأ يحصل على الإعانة الخاصة بالعاطلين عن العمل. كذلك بدأ يجتمع مع مجموعة من الشبان المسلمين، ويقيم في منزله لقاءات دينية يشرف عليها السوري رضوان العصار المكنى ابو الخطيب. \r\n وبدأت الاستخبارات الهولندية مراقبة تلك المجموعة التي اطلق عليها اسم «خلية هوفستاد». وقد اختفى السوري رضوان ويجري البحث عنه الآن. \r\n والعام الماضي، القي القبض على بويري واستجوب، لكن افرج عنه باعتباره شخصية ثانوية. وافادت وزارتا الداخلية والعدل في بيان مشترك اخير انه «حتى موعد الهجوم على فان غوخ، فان أجهزة الاستخبارات لم تكن تملك أي معلومات» تشير الى ان بويري يعد لعمل عنيف. \r\n غير ان دوره بدأ يتزايد مع الوقت. واكد مسؤولون هولنديون ان سيارة فولكسفاغن مسجلة باسم بويري استخدمت من قبل ثلاثة متطرفين سافروا الى البرتغال في يونيو (حزيران) الماضي خلال مباريات كأس اوروبا لكرة القدم، الا ان السلطات البرتغالية أعادتهم الى هولندا في إطار الحملة الأمنية خلال البطولة. \r\n وخلال الأيام الثلاثة التي سبقت عملية قتل فان غوخ، أرسل بويري 100 رسالة الى موقع انترنت يشرف عليه هولنديون من اصل مغربي وينتقد بشدة الحملة الاميركية في العراق، حسبما جاء في «راديو1» الهولندي. وفي رسالة بعث بها صباح قتله فان غوخ، وصف رئيس الوزراء العراقي اياد علاوي بأنه «خنزير سمين»، كما اشاد ب«الرجال الشجعان» الذين يقاتلون القوات الاميركية في العراق. وبعد ذلك بثماني ساعات قتل فان غوخ. وقال اتجي دي فيلدي: «لابد ان شيئا ما حدث بالنسبة له. لقد صدمنا. ليس هذا هو الشخص الذي نعرفه». \r\n \r\n * خدمة «واشنطن بوست» خاص ب «الشرق الأوسط»