لقد كشفت المبادرة المصرية بخصوص وقف العدوان على غزة (سياقًا ومضمونًا وأهدافًا وصياغة) ما يجب أن نهتم به ونلقى عليه الضوء، وهو ما يتعلق بالدور المصرى فى المنطقة والمحدد بشكل صارم بقيود والتزامات "كامب ديفيد"، وهو الدور الذى ساهم فى تدعيم الغطرسة والعدوان الإسرائيلى فى المنطقة منذ 1978 فضلا عن خدمته للمشروع الإسرائيلى طالما بقيت هذه الأتفاقية بنفس الأهداف. والحقيقة التى لاتخطئها العين ولا يمكن لقارئ لمشهد التحكم الأمريكى فى كل مسارات الحركة بالمنطقة ومتابع لمظاهر الهيمنة الأسرائيلية فيها إلا ويعود لكامب ديفيد التى تعد اتفاقية حاكمة على العديد من الأوضاع فى المنطقة ومتحكمة فى معظم مسارات العمل والحركة ومسيطرة على أى اتجاه للتغيير أو الاصلاح فيها، وذلك طبعا على مستوى التخطيط بغض النظر عن قدرة أطرافها على تحقيق طموحاتهم أو بالأحرى أطماعهم. لكن الأهم فى هذه الاتفاقية -بطبيعة الحال- هو ما يتعلق بأى تطور ذى صلة بالصراع العربى الإسرائيلى، وخاصة ما يتعلق بالقضية الفلسطينية ولاسيما فى وجهه الغزاوى المشتعل منذ الانفصال، ومن هنا لابد وأن يتضح بجلاء مدى العلاقة بين الانقلاب والكيان الصهيونى فى محاصرة غزة ومحاولة السيطرة عليها بعد إحكام الحصار عليها، بل لابد وأن يبرز أساساً مدى علاقة إسرائيل بالانقلاب الذى لا يخطئ من يعرّفه بأنه انقلاب إسرائيلى بامتياز مهما تعددت الأطراف الداعمة له. وهنا قد يتصور البعض أن "أوسلو" هى الأقرب لتحمل تبعة مثل هذا العدوان على غزة برغم أن الحقيقة التى تغيب عمن يفكر بهذا المنطق أنه لولا كامب ديفيد ما كانت "أوسلو" بل وما كانت "وادى عربة" فكامب ديفيد قد وضعت المنطقة كلها على مدرج سفح جبل مرتفع ليس أمامها سوى أن تتدحرج عليه، ومن هنا أيضا يدفع الأبطال فى غزة أثمانا غاليا من دمائهم ليحاولوا الصعود مرة أخرى فى مواجهة قصف نيرانى مكثف يعتمد بالأساس على الغطاء السياسى والاستراتيجى الذى وفرته "كامب ديفيد" أكثر مما يعتمد على القدرة العسكرية والتفوق التقنى!! وفى هذا الأطار يجب أن نتذكر أن "كامب ديفيد" لها دور كبير فى ضمان أمن إسرائيل، ومن ثمّ القيام بواجبات مشتركة فى مواجهة أعدائها وهم كل المقاومين لعدوانها أو الذين يفكرون فى ذلك أو يتضامنون مع ذلك. كما يدخل ضمن أهداف "كامب ديفيد" - سواء كانت صريحة أو ضمنية مباشرة أو غير مباشرة- العمل على تقويض القضية الفلسطينية بتحويلها أولا إلى قضية حكم ذاتى وصولا إلى اعتبارها مجرد قضية لاجئين!! أتفاقية بهذه الأهمية بالنسبة للكيان الإسرائيلى لايمكن أن يفرط بها، بل ولا يمكن أن يتنازل عن وجود نظام مصرى يحميها ويدافع عنها ويلتزم بكل استحقاقاتها خطوة تلو أخرى، وهذا ما يجعلنا نؤكد على أن أقرب توصيف للنظام الذى دشن الاتفاقية - وهو نظام السادات- ومن بعده النظام الذى حرص عليها لعدة عقود - وهو نظام مبارك- ومن بعده النظام الذى يتأسس الآن لاستكمال ذات المسيرة أنه "نظام كامب ديفيد" فأهم واجباته هو الدفاع عنها وأكبر أهدافه هى الأهداف التى تضعها له وأهم أسباب بقائه مرتبطة بمدى التزامه بها!! لهذا فقد حرص جيل المؤسسين لهذه الأتفاقية أن يؤمنوا كل أسباب استمرارها وبالأخص على الجانب المصرى، لهذا كان الحرص بالغا فى تأسيس نظام يلبى كل متطلبات "كامب ديفيد" وهو النظام الذى أسسه السادات بمشاركة حثيثة من هنري كيسنجر أهم مخططى السياسة الخارجية الأمريكية: فكان لابد من الأنفتاح الأقتصادى الذى يوجد طبقة رجال الأعمال الفاسدين فيما أطلق عليهم فى السبعينات "القطط السمان" والذين تحولوا فى عصر "مبارك" وما بعده لوحوش ضارية وهى طبقة ضرورية لحماية النظام وامتصاص دماء الفقراء الذين هم غالبية المجتمع حتى يظلوا يزحفون على بطونهم بحثا عن لقمة العيش. وكان لابد من تأسيس الحزب الوطنى الذى يدافع عن توجهات النظام الرئيسية وأهمها "كامب ديفيد"، فلا تكون الأتفاقية مجرد عقد مع رئيس ثم تذهب أدراج الرياح حال وفاته، بل هناك كيان سياسى يدافع عنها مهما تعاقب الرؤساء. وكان ولابد من تكريس قواعد لتزوير الانتخابات تضمن استمرار هذا الحزب فى السلطة مهما تدنت شعبيته أو تلوثت سمعته فكان قرار حل برلمان 1977 واجراء انتخابات مزورة بالكامل عام 1979 لم يفز فيها سوى معارض واحد وقفت أسرته بالبنادق الآليه فوق الصناديق لمنع مؤسسات الدولة من تزويرها!! وهكذا كان لا يمكن تصور أن تنجح الثورة المصرية فى ظل بقاء قوى كامب ديفيد متنفذة وحاكمة فى المشهد المصرى وهى قوى حرص صانعوا النظام على تشبيكها وتركيبها داخل المجتمع، بحيث تكون قابلة للعودة التلقائية لحكم مصر بدواعى المصالح المشتركة بل والمخاطر الواحدة. وهكذا لا يمكن تصور قبول إسرائيل بنظام ديمقراطى فى مصر لأنه فى الحقيقة سيفرز القوى ذات الشعبية وهى القوى التى لا ترغب إسرائيل فى التعامل معها. وهكذا جاء الانقلاب على الثورة من المؤسسة العسكرية صاحبة العلاقات المتميزة مع إسرائيل بالتعاون مع مؤسسات الدولة العميقة التى تربت فى عصور الاستبداد وتعودت على مناخاته ولا تطيق أن تعيش بعيدًا عن الفساد الذى يتيحه لها إضافة إلى رجال الأعمال الذين لا يحيون فى غير البيئة الفاسدة التى يوفرها لهم النظام الفاسد!!