حن نعيش في عصر يُقال فيه إن العولمة لم تفد سوى النخب في بلدانها، تاركة وراءها حشود الجماهير التي تفتقر للتعليم والمهارات الضرورية للمنافسة، لكن مع ذلك سيتذكر المراقبون عام 2013 باعتباره السنة التي غصت فيها شوارع العديد من العواصم حول العالم بتلك النخب ذاتها التي يزعم البعض أنها استفادت من العولمة، فالجماهير التي طالبت بالثورة في القاهرة وإسطنبول وبانكوك وكييف خلال السنة الموشكة على الانتهاء، لم تكن من المهزومين الفقراء الذين خسروا بسبب العولمة، بل كانت في معظمها من الرابحين من اقتصاد العولمة والمتمثلين في الطبقة الوسطى المتعلمة والعلمانية التي تتحدث اللغة الإنجليزية، كما حظوا بدعم رجال الأعمال الذين اغتنوا بواسطة التجارة، فضلاً عن تعاطف إدارة أوباما مع قضيتهم... فلماذا إذن يتمرد هؤلاء المحسوبون على الطبقة الوسطى؟ الجواب يكمن في أن العولمة لا تعني فقط الجانب الاقتصادي، بل صاحبها أيضاً الانتشار السريع للانتخابات الحرة التي اكتسحت بلداناً عديدة كانت فيها العملية الديمقراطية محظورة. هذا الواقع مكن من صعود الشعبويين الذين يخاطبون الفئات الفقيرة التي خسرت جراء العولمة والذين يتعهدون أمام ناخبيهم بإزالة المؤسسات القديمة وضمان الرخاء للجميع. وفي بلد تلو الآخر تمكن هؤلاء الشعبويون من احتكار السلطة والسيطرة على النظام السياسي. ومن هنا يمكن فهم الموجة الحالية من الثورات التي تقودها الطبقة الوسطى. وبالطبع لم يكن هناك مثل هوجو شافيز رائداً لهذا التوجه، حيث تقلد رئاسة فنزويلا في عام 1998 ليتبعه في أسلوبه قادة آخرون في أميركا اللاتينية وخارجها مثل أردوجان في تركيا، وشناوترا في تايلند، ويانوكوفيتش في أوكرانيا، ومرسي في مصر، ورغم الاختلافات الجوهرية بين هؤلاء القادة، فإنهم يقتسمون نقاطاً مشتركة تتمثل في الدعم الذي يتلقونه من الطبقات الفقيرة والأقل تعليماً، وسكان الأرياف، فيما يتمحور معارضوهم في المدن. لكن مشكلة الشعبويين أنهم بارعون في حصد الأصوات والفوز بالانتخابات، وفاشلون في الإدارة والحكم. والمؤسف أن المستفيدين من الديمقراطية غالباً ما لا يكنّون احتراماً كبيراً لها، فعلى غرار شافيز عادة ما يقومون بإعادة كتابة الدساتير لتركيز السلطة في أيديهم وضمان بقائهم في الحكم، ثم يُخضعون المعارضين للمضايقات والسجون، بل وأحياناً يلجأون إلى القبضة الأمنية وملء الأثير بالدعاية. وأمام هذا الوضع ليس غريباً أن تنتفض المدن بسكانها، حيث انطلقت اعتصامات الطبقة الوسطى في كراكاس منذ 2002، وهذا الشهر يخرجون بقوة في بانكوك وكييف، وقبلهم بشهور ظهروا في ساحة تقسيم بإسطنبول. لكن هناك مشكلة مع محتجي الطبقة الوسطى الذين يطالبون بالحرية وتغيير النموذج الاقتصادي، فأغلب المنتفضين من النخبة ليسوا أكثر التزاماً بالديمقراطية من غيرهم، فأصحاب «القمصان الصفراء» في بانكوك الذين خسروا الانتخابات يطالبون اليوم بإسقاط الحكومة المنتخبة ديمقراطياً واستبدالها بمجلس معين. وفي كييف يطالب مناوئو يانوكوفيتش المنتخب، الذي رفض التوقيع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، بالتنحي، رغم أن ولايته الرئاسية لا تنتهي إلا في 2015. وإذا كان للنخب أن تتعلم شيئاً فلتستلهم تجربة الطبقة الوسطى الفنزويلية التي رغم مطالبتها السابقة بالتدخل العسكري لإسقاط شافيز، ومحاولاتها مقاطعة الانتخابات، فإنها فشلت في الوصول إلى السلطة، ولم يبقَ أمامها سوى اعتناق الديمقراطية، حيث نبذت العنف وتعهدت بالحفاظ على بعض برامج النظام المرتبطة بمكافحة الفقر. ومع أن النتائج ليست محسومة في ظل تدخلات النظام، فإننا قد نشهد في المستقبل المنظور تعايشاً للديمقراطية والعولمة في فنزويلا. نوع المقال: سياسة دولية