دائماً ما يكون للإبداع دور كبير في تأصيل وتوثيق الثورات من شعر وقصة ورواية ورسم وأفلام وثائقية ودرامية ومسلسلات، ويساهم الإنتاج الإبداعي الذى يتولد من رحم الأحداث ذاكرة مكتوبة ومصورة لهذه الثورات، إلا أن الثورة المصرية التي اتسمت بتفردها قد ولدت ثورة فنية موازية على جدران وسط القاهرة وخاصة شارع محمد محمود ممثلة في "فن الجرافيتي" الذي رسم بدم الشهداء والذي تحول بدوره إلى شاهد جديد على ما مرت به البلاد، وعلى أسماء وصور الشهداء الذين ارتضوا أن يبذلوا أعمارهم وأرواحهم من أجل مستقبل أفضل لمصر، وعلى فن جديد ظهر لأول مرة في مصر بعد الثورة، ذلك الفن الذي عرفته دول العالم التي مرت بثورات وحركات التمرد ورفض الأنظمة الديكتاتورية. ظهور الجرافيتي وفن الجرافيتي في جوهره عبارة عن رسومات أو أحرف تم وضعها على مكان عام ظاهر مثل الجدران والجسور دون إذن مسبق، ويعتقد أن ممارسة الجرافيتي موجود منذ أزمنة قديمة مثل الحضارة الفرعونية والإغريقية والرومانية بل وربما قبل ذلك حين عرف الإنسان الرسم على جدران الكهوف، تطور الجرافيتي عبر الزمن واليوم يسمى بالجرافيتى الحديث، ونشأ فن الجرافيتي الحديث في ستينيات القرن الماضي في نيويورك بإلهام من موسيقى الهيب هوب. جداريات محمد محمود لعل أشهر جداريات وسط القاهرة تلك التي عرفت باسم "جرافيتي محمد محمود" التي ظهرت عقب إندلاع أحداث محمد محمود، في الفترة من 19 إلى 24 نوفمبر 2011، في أماكن متنوعة في المنطقة التي شهدت تلك الاحتجاجات ومنها أسوار الجامعة الأمريكيةبالقاهرة وجدران بعض العمارات وأسوار المدارس الملاصقة لها، كما ظهرت جداريات على الحاجز الخرساني الذي وضعته السلطات الأمنية المصرية في شارع محمد محمود لمنع تقدم الثوار إلى مقر وزارة الداخلية. ومن أهم المبادرات التي أطلقت كانت مبادرة بعنوان "مفيش جدران" في منتصف مارس 2012، رسم خلالها الفنانون لوحات جدارية على كتل الخرسانة التي سدت بها السلطات شوارع رئيسية قريبة من وزارة الداخلية ومقر البرلمان، وتحت هذا الشعار رُسمت على الكتل الخرسانية لوحة توحي للناظر إليها أن الشارع لا يزال مفتوحًا وفي وسطها مشهد لقوات الأمن تعتدي على المحتجين. أبطال الثورة وأعدائها وقد تضمنت تلك الجداريات العديد من شعارات الثورة وأهم رموزها سواء كانوا من أبطالها مثل سامبو ومينا دانيال وأحمد حرارة والشيخ عماد عفت، أو ممن اعتبرهم الفنان من أعدائها مثل المشير طنطاوي والملازم محمود الشناوي الشهير بقناص العيون، وقد أضيفت لاحقًا إلى صور شهداء الثورة ومصابيها وضحاياها في أحداثها المتوالية، صور لوجوه جديدة من شباب ألتراس النادي الأهلي الذين شكلوا معظم ضحايا أحداث استاد بورسعيد، كما ضمت الجدران شعارات تطالب بتسليم السلطة للمدنيين وإسقاط حكم العسكر. صورت بعض الجداريات المصادمات مع الأقباط أمام مبنى التلفزيون في ماسبيرو في أكتوبر 2011، ومصادمات شارع محمد محمود في نوفمبر 2011، والمواجهات التي دارت بالقرب من مجلس الوزراء في ديسمبر 2011. ومن تلك الجداريات أيضًا جدارية سجلها فنانو الجرافيتي على سور الجامعة الأمريكية، وتمثل صعود الشهداء إلى الجنة مستلهمين فيها أساليب الرسم المصري القديم والأوضاع التي تتخذها الشخوص في اللوحات المسجلة على جدران المعابد الجنائزية. نصوص قرآنية وقد رُسم قرب مكتبة الجامعة الأمريكية القديمة يوم 27 فبراير 2012 جرافيتي كبير يمثل الشيخ الأزهري عماد عفت أحد شهداء الثورة في أحداث مجلس الوزراء وإلى جواره آيتان قرآنيتان "وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرً". كما تحول الجدار الذي أقيم للفصل بين وزارة الداخلية والمتظاهرين في شارع منصور القريب إلى جدارية للخط العربي نقشت عليها الآية: لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلا فِي قُرى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاء جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ. توثيق الجرافيتي جدير بالذكر أن بعض المصورين الفوتوغرافيين اهتموا بتصوير الجداريات التي ظهرت منذ اندلاع ثورة يناير وبذلك تم توثيق بعضها وأصبحت مادة بحثية ونشر عنها مؤلفات، منها على سبيل المثال الكتاب التوثيقي "أرض أرض .. حكاية ثورة الجرافيتي" للقاص والمصور الفوتوغرافي شريف عبد المجيد، ويشتمل على أكثر من ثلاثين صورة فوتوغرافية تعبر عن علاقة الناس بحوائط الجرافيتي بعد الأحداث والاشتباكات المختلفة التي تمت أمامه، سواء بالمشاهدة أو استخدامها أو الكتابة عليها مرة أخرى. ذاكرة لن يمحوها الجهل في صباح بائس قام عدد من العمال التابعين لحي عابدين بطمس الجرافيتي الذي رسم على جدران شارع محمد محمود واللوحات الفنية للشهداء والمناهضة للمجلس العسكري، ومحوا تفاصيل أحداث أكثر من عام من الثورة، إلا أن رابطة "فناني الثورة" قامت فى اليوم الثاني على التوالي برسم جرافيتي جديد يوثق أحداث مختلفة من الثورة وأحداث جارية.