في البداية لابد من الاعتراف بأن الأمة المسلمة في عمومها تمر حالياً بمرحلة انتقالية فريدة من نوعها، إذ أنها بعد أن تمكّنت من انتزاع الاستقلال عن الاستعمار قي كثير من بلدانها (وبعضها لا يزال تحت الاستعمار المباشر أو خضع للغزو الاستعماري من جديد في نهايات القرن العشرين الميلادي مثل أفغانستان والعراق)، وبعد أن تمكّنت هذه الأمة – عن طريق الثورات الأخيرة في العالم العربي – من تحقيق بدايات الاستقلال الثاني عن القيادات السياسية والعسكرية التي حكمتها بعد الاستقلال بأيديولوجيات وتصورات وولاءات وثيقة الصلة بقوى الاستعمار (تحت مسمى الحداثة والتحديث واللحاق بالتطور العالمي ... إلخ من كمال أتاتورك إلي حسني مبارك) صارت هذه الأمة وتلك القوى الفاعلة فيها والساعية إلى الاستقلال ... صارت تواجه الآن موجات جديدة من الصراع الفكري والثقافي تحاول التشكيك في جوهر الفكرة الإسلامية وصلاحيتها للتطبيق في واقع الحياة الجديدة التي نحياها اليوم... مع التشكيك في مدى إمكان اتخاذ الإسلام كبديل معرفي وثقافي وحضاري وكإطار حاكم لعملية التغيير في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من مجالات حياة هذه الأمة. هذه المواجهة الثقافية الجديدة لها عناوين خاصة بها، منها علي المستوى الداخلي مقولات المابعد إسلاموية (بوست-إسلاميزم) Post-Islamism – بمعنى القول بأن أطروحة الحركة الإسلامية والفكرة الإسلامية والبديل الإسلامي قد فشلت وانتهت، وأن الواجب الآن هو الاتجاه إلي مابعد (بوست Post) ذلك الطرح والتصور. لذا كان تعبير "فشل الإسلام السياسي" هو التعبير الأثير الذي صاغه واستخدمه أوليفييه روا Olivier Roy ووضع فيه كتاباً في بدايات التسعينيات من القرن العشرين (أي قبل عقدين كاملين من الربيع العربي) ليبشّر فيه بسقوط تجربة الحركات الإسلامية (الإسلاموية) ويقول بأن هذه الجماعات والحركات قد أثبتت فشلها ولن يكون من نصيبها الانتشار ولن تجد تأييداً شعبياً، فهي مجرد مظهر لما يسميه "تجربة الإسلام السياسي" التي يري أنها قد فشلت. وقد قام أوليفييه روا أيضاً بتقعيد مصطلح المابعد إسلاموية (بوست إسلاميزم) Post-Islamsim وسعي للتنظير والترويج له. ولقد كان من بين المروّجين بقوة لهذا المصطلح كاتب مصري رحل عن عالمنا اسمه حُسام تمّام، وهو الذي كتب الكثير انطلاقاً من وتعبيراً عن تجربته الشخصية الخاصة في الانقلاب علي الحركة الإسلامية التي انتمى إليها (الإخوان المسلمون) وأسهب في التنظير حول هذه الحالة ليبرر خروجه منها ومن الإطار الإسلامي لهذه الحركة باتجاه المابعد إسلاموية – وهو نفسه الذي درس "تسلّف الإخوان المسلمين" مشيراً إلي تحول بعض تصورات ورؤى الإخوان منذ الستينات إلي ما يعتبره إطاراً سلفياً – وهو (حسام تمام) ينبّه إلي هذا ويحذّر منه باعتباره ما بعد إسلاموي، ذلك أن الشقاق واضح وجلي وقوي بين المابعد إسلاموية والحركات والمقولات الإسلاموية – وخاصةً السلفية. يقول حسام تمام "والحق أنّني ممّن تأثروا بأطروحة «ما بعد الإسلام السياسي» واستفدت منها كثيرا في دراساتي عن الإخوان المسلمين، وخاصة في كتابي «تحولات الإخوان المسلمين: تفكك الإيدولوجيا ونهاية التنظيم». كما بدا التأثّر (أو التوافق غير المخطط له في كثير من الأحيان) واضحا في كتابي عن تحوّلات الظاهرة الإسلامية في مصر في العقد الأخير «ما بعد الإسلام السياسي: إعادة تشكيل حركة الأسلمة في مصر». ويظلّ أوليفييه روا، صاحب الأطروحة، أحد أهم الباحثين في هذا المجال وأكثرهم نضجا وقدرة على تطوير أفكاره". ولكن ولوجه الحقيقة، حاول حسام تمام فيما بعد مراجعة بعض مقولاته تلك دون أن يتنازل عنها تماماً. ومن هنا يمكن توصيف – إن لم نقل تعريف – المابعد إسلاموية (البوست-إسلاميزم) بأنها الوصول إلي الانتماء للعلمانية بعد الانقلاب علي والخروج من التجربة الإسلامية – حيث أن المابعد إسلامويين هم أشخاص كانوا "إسلاميين" وصاروا "علمانيين" بدرجات متفاوتة من الشدة في الانتماء إلي التصور العلماني الجديد الذي يتبنونه. ولقد عمل حسام تمام علي الترويج لهذه المابعد إسلاموية في كتاباته... وهو قد أشار بوضوح إلي انتمائه إلي مذهب وفكر أوليفييه روا في هذا المجال. أما علي المستوى الخارجي (من خارج الظاهرة الإسلامية ومن خارج إقليمها كذلك) فإن هذه المواجهة الفكرية والثقافية – وما يستتبعها من أبعاد سياسية واستراتيجية – تأخذ بالأساس صيغة تم الاصطلاح علي تسميتها (إسلاموفوبيا) Islamophobia – وهي التي يمكن ترجمتها إلي العربية بمعنى "كراهية الإسلام" أو "رُهاب الإسلام"، بمعني أنها تجمع بين كراهية الإسلام من جهة والرهبة والرعب والتخويف من انتشاره وذيوعه وانتصاره في معركة الاستقلال الثاني هذه من جهة أخرى – خاصةً بعد الثورات العربية واحتمال جعله (الإسلام) هو البديل المهيمن في مرحلة صياغة حياة الشعوب المسلمة – بديلاً عن الليبرالية والاشتراكية والقومية وغيرها). الإسلاموفوبيا تقف في حالة شرسة من العداء والتخوف من ما يحدث من عمليات تحول واسعة لدي قطاعات متزايدة من المسلمين تجاه اعتماد الإسلام كرؤية معرفية كونية شاملة وليس فقط في إطار الشعائر – التي كانت النظم الساقطة بفعل الثورات العربية تسمح بها فقط وربما بشروط (كما في حالة النظام التونسي الساقط في عهد بن علي الذي تولي تقنين حتى ممارسة الصلاة ومنع أو حظر أو ضيّق علي مظاهر وممارسات إسلامية أخرى) وتحول واسع وسط الشباب المسلم في العالم الإسلامي من تصور الإسلام بالمعني الطقوسي البارد الجامد إلي تصور آخر حركي وحيوي وفاعل وفعّال يجعلهم "إسلاميين" وليسوا فقط "مسلمين". كما أن الإسلاموفوبيا تقف في حالة شرسة من العداء والتخوف من ما يحدث من عمليات التحول إلي الإسلام التي تتزايد حالياً في الغرب بعد تجاوز الفلسفات والمذهبيات والأيديولوجيات الحداثية والمابعد حداثية لدي قطاع من النخبة المثقفة وعامة الناس علي السواء. وليست تقتصر الإسلاموفوبيا علي الكُتّاب والسياسيين والباحثين الاستراتيجيين الغربيين وحسب (بما فيهم المروجين للمابعد إسلاموية) بل هي تنسحب كذلك بالضرورة علي الكثير من الكُتّاب والسياسيين والباحثين العرب والمسلمين الذين يتخذون نفس الموقف ضد الأفكار والتصورات الإسلامية وضد الإسلاميين بناءً علي مرجعياتهم وخلفياتهم الأيديولوجية سواءً ماركسية أو ليبرالية أو قومياتية – أو علمانية بشكل عام. وهؤلاء الكُتّاب والسياسيون والمثقفون ورجال الدولة وأحياناً رجال أمن في الدولة (سواءً ممن حدث تغيير في بلادهم فصاروا من فلول وأزلام النظام السابق أو لا يزالون في السلطة في دول لم يصلها التغيير بعد) يقفون في خندق واحد مع الإسلاموفوبياويين في الغرب ويستنسخون مقولاتهم في التخويف والترهيب من فكر الإسلاميين وحكم الإسلاميين وخطر الإسلاميين ... ويقفون ضد الإسلامية (أو الإسلاموية) ويحذّرون من الإسلاميزم Islamism بكل قوة... ثم هم يرحبون كذلك بكل المتحولين إلي العلمانية أو المابعد إسلاموية من صفوف شباب الحركة الإسلامية أو من هم أكبر سناً ويفردون لهم الصفحات المطوّلة في الصحافة ويمنحونهم أكبر تغطية إعلامية ممكنة ويستضيفونهم في برامج الفضائيات لنشر أفكارهم ومقولاتهم لعلها توقف امتداد وزحف الحالة الإسلاموية التي يخافونها. لكن الإسلاموفوبيا في الخارج هي أكثر وعياً بمهمتها وطريقة الوصول إلي الذي تريده وتستهدفه. إنها تحاول طول الوقت توصيل رسالتها إلي صنّاع القرار في المراكز السياسية الغربية (البيت الأبيض والبنتاجون والاتحاد الأوربي ومؤسساته وكذا الأوساط الحكومية الغربية إجمالاً) وهي تتوجه إليهم بلغة تبدو معتدلة ورصينة وأكاديمية أحياناً (راجع تقرير مؤسسة "راند" حول بناء شبكات إسلامية معتدلة Building Moderate Muslim Networks الصادر عام 2007 – وهو الذي يقول أن الحرب الدائرة داخل العالم الإسلامي هي "حرب أفكار War of Ideas" ويعمل علي مساعدة الولاياتالمتحدة (والغرب عموماً) علي الاستفادة من خبرة "الحرب الباردة" في هذا المجال). وهذه الإسلاموفوبيا ليست تهمل أبداً توجيه خطاب فكري وثقافي وسياسي للعامة من الناس في أوربا وأمريكا والغرب عموماً ضد الإسلام والمسلمين وكذا الإسلاميين بالطبع. وهي تقف في خندق واحد مع اليمين الديني واليمين اللاديني العنصري ضد الظاهرة الإسلامية وتنتقد الغربيين الذين ينادون بفكرة "التعددية الثقافية" Multi-Culturalism وتراهم خطراً هم الآخرين. يتجلى هذا في مسألة المآذن السويسرية وفي الأفلام المسيئة العديدة ضد الرسالة والرسول (صلي الله عليه وسلم) وضد معتنقي هذه الرسالة وأتباع هذا الرسول... ثم كل مماحكات الكاريكاتير الاستفزازية التي هي مجرد تمظهرات وتجليات للإسلاموفوبيا. وفي هذا السياق لا يخلو الإعلام الغربي ولا تخلو اتصالات ومؤسسات صنع القرار (الدبلوماسية وغيرها) من الاهتمام والاحتفاء بالمابعد إسلامويين مثلها مثل الإعلام المدعوم من فلول وأزلام النظم السابقة في دول الربيع العربي، أو المدعوم من الدولة وما حول الدولة من مؤسسات خاصة في الدول التي لم يصلها هذا الربيع الثوري بعد. إذن هذه هي خريطة أرض ميدان المعركة القائمة حالياً بين الإسلاموفوبياويين والمابعد إسلاميين من جانب وأولئك الإسلامويين أو الإسلاميين من جانب آخر... رغم أن الحقيقة التي لا تزال ماثلةً هي أن كثيراً من المابعد إسلاميين من الشباب هم بالأساس ضحايا لخطابات وشبهات الإسلاموفوبيا الداخلية قبل الخارجية ولحملات الإثارة والتشكيك ضد الفكرة الإسلامية وضد الإسلاميين – رغم أننا يجب ألا نعفي الإسلاميين أنفسهم من أخطاء جسيمة وقعوا فيها ومهّدت بعض الطريق وساهمت في إيجاد وانتشار ظاهرة المابعد إسلاميين. ومن هذه الخلفية للصراع نتجت الكثير من مقولات التشكيك في الإسلام والنص الإسلامي والفقه الإسلامي... وظهر فقه التشكيك الذي يحاول به من يتبناه إقناع نفسه وربما غيره بالتخلي عن الإسلام وتعطيل العمل به في حياته كدين! علي اعتبار أن بالإسلام "تنافرات معرفية" تجعله يتناقض مع الفكرة الإنسانية! وتبرر تخفيض رتبة الإسلام من "دين" إلي مجرد "مستند ثقافي" يملأ فراغات صورة العالم لدي هذا الشخص!. وفي إطار فقه التشكيك هذا تتم إثارة شبهات وإشكاليات وطرح قضايا هي بالضرورة – سواءً أدرك هذا الشخص هذا أم لا – تبدأ من خانة الإسلاموفوبيا ثم تحملها أشرعة وسفن المابعد إسلاموية إلي منتهاها. يحدث هذا بصورة تماثل – من طرفٍ ما – هجمات سابقة للاستشراق القديم الذي لم يكن في كثير من الأحيان خالياً من بقايا نزعات استعمارية وبعض عناصر كراهية للإسلام أو إسلاموفوبيا. وسنوالي – بعون الله وتوفيقه – مناقشة فقه التشكيك ثم الرد عليه في مسائل محددة.