لم يخيب مؤتمر «انابوليس» رجاء الذين أساءوا الظن به ورفضوا المراهنة عليه، لأن حصيلته جاءت كارثية بالنسبة للفلسطينيين ومهينة للعرب أجمعين.
(1) خلال الأسابيع التي سبقت المؤتمر ظل رئيس السلطة الفلسطينية -السيد محمود عباس- يشدد على أنه لن يذهب إلى انابوليس قبل إعلان أولمرت تجميد الاستيطان ووقف البناء في جدار الفصل العنصري ورفع الحواجز العسكرية في أرجاء الضفة. وقال في أكثر من مناسبة وتصريح إن مشاركته في المؤتمر مشروطة أيضاً بالتوصل إلى وثيقة مبادئ تحدد مسبقاً مصير القضايا الأساسية في الصراع: القدس واللاجئون والحدود والمستوطنات والأمن.
هذه المشاركة المشروطة كان لها صداها في أكثر من بلد عربي، فقد قرأنا تصريحات قوية صدرت من أكثر من عاصمة تحدثت عن ضرورة الانطلاق في المؤتمر من مرجعيات واضحة ترتكز على قواعد القانون الدولي وقرارات الأممالمتحدة، وقرار مجلس الأمن رقم 242، بحيث يظل الأساس هو العودة إلى حدود عام 1967، وتطبيق قرار الأممالمتحدة رقم 194 الخاص بعودة اللاجئين، ومبادرة السلام العربية التي تحدثت عن الأرض مقابل السلام، ونبهت تلك التصريحات المعلنة الى أن خريطة الطريق التي أطلقتها الإدارة الأمريكية ينبغي أن تظل مجرد آلية للتنفيذ وليست مرجعية. كما أفاضت في الحديث عن الاستحقاقات التي ينبغي أن تفي بها إسرائيل قبل الذهاب إلى المؤتمر، وفي مقدمتها وقف بناء المستوطنات وإعادة فتح المقار الفلسطينية بالقدسالشرقية التي أغلقتها إسرائيل أثناء الانتفاضة عام 2000، وإلغاء أو الحد من نقاط التفتيش التي تعوق حركة الفلسطينيين بالضفة... الخ.
ومن بين ما أعلنته دمشق كشرط للذهاب إلى المؤتمر، أن مشاركتها معلقة على إدراج موضوع احتلال هضبة الجولان على جدول أعماله، وأعلن رسمياً أثناء اجتماع وزراء الخارجية العرب الأخير في القاهرة، أن دمشق تلقت وعداً بالاستجابة لمطلبها.
في هذه الأجواء المسكونة بالتشدد في المواقف والمطالب، تحدث أبو مازن مراراً عن أن المؤتمر فرصة لن تتكرر لإحلال السلام في الشرق الأوسط، وسار في الركب نفر من الكتاب الذين ما برحوا يبشروننا بفجر السلام الذي لاح، وأمله الذي حل بعد طول انتظار، وإرهاصات اليسر التي تجلت بعد سنوات الإحباط والعسر، و"العبور الجديد" الذي صارت الأمة العربية على مشارفه، بعد ذلك التصعيد في الاشتراطات والتعبئة الإعلامية المتفائلة، ما الذي حدث؟
(2) حدث الكثير أثناء المؤتمر وبعده، من ذلك مثلاً:
ü أن كل ما أعلن من شروط سواء من جانب أبو مازن أو المتحدثين في العواصم العربية تم تجاهله وذهب الجميع دون أن يلبى أي شرط منها. وأبو مازن الذي قال أنه لن يذهب ولن يوقع إلا إذا حدث كذا وكذا ذهب راضياً ووقع مرغماً. حتى أن صحيفة ها آرتس ذكرت في عدد 28/11 أن الرجل حين تردد في التوقيع على "وثيقة التفاهم" بعدما اكتشف أنها تجاهلت مطالبه، فإن وزيرة الخارجية الأمريكية وبخته قائلة "اقلعوا عن هذه الألاعيب والمناورات ويجب أن نتفق الآن"، وحين طلب أحمد قريع رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض إدخال تعديل على الوثيقة يحفظ ماء الوجه، فإن وزيرة الخارجية الإسرائيلية نهرته قائلة: إما أن تقبلوا البيان كما هو، أو تتركونا وشأننا. فكانت النتيجة أن رئيس الوفد الفلسطيني وقع صاغراً!
ü حين أعلنت وثيقة التفاهم فإنها لم تستجب لأي مطلب فلسطيني أو عربي. وكل ما قالته أن الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي وافقا على البدء فوراً في مفاوضات ثنائية (لا دخل للعرب بها وليسوا طرفاً فيها) لحل جميع القضايا العالقة دون استثناء، مع التعهد "ببذل الجهد" للتوصل إلى اتفاق قبل نهاية عام 2008. وستشكل منهما لجنة متابعة لهذا الغرض، من مهامها تنفيذ الواجبات التي تمليها خريطة الطريق، كما ستشكل هيئة أمريكية فلسطينية إسرائيلية للتثبت من الالتزام بالخريطة المذكورة. بالتالي فإن الوثيقة لم تضف جديداً حين تحدثت عن إطلاق مفاوضات حاصلة بالفعل (أبو مازن وأولمرت اجتمعا تسع مرات، ويلتقيان بصورة منتظمة كل أسبوعين) كما أنها لم تشر إلى أية مرجعية للمفاوضات سوى خريطة الطريق، التي ذكرت خمس مرات في النص المعلن. ومن ثم تم تجاهل مبادرة السلام العربية، التي كانت الدول العربية قد أعلنت أن الالتزام بمرجعيتها شرط لمشاركتها في المؤتمر، وهي صفعة للعرب تلقاها الجميع في صمت.
وحتى تستحكم المفارقة وتستكمل الإهانة، فإن الهيئة التي ستشرف على تطبيق خريطة الطريق سوف يرأسها ضابط أمريكي كبير هو الجنرال جيم جونز الذي كان يوماً ما مسؤولاً عن التنسيق الاستراتيجي بين الجيش الأمريكي والجيش الإسرائيلي.
ü رغم الاعتراض الفلسطيني على وصف إسرائيل بأنها "دولة يهودية"، وهو ما تم تجنبه في وثيقة التفاهم، فإن كلاً من الرئيس بوش ورئيس الوزراء الإسرائيلي أيهود أولمرت تحدثا في خطابيهما صراحة عن يهودية الدولة، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه لنفي وطرد العرب الموجودين في إسرائيل، في حين يغلقه تماماً في وجه اللاجئين الفلسطينيين.
ü في 28/11 اعتبرت القناة الثانية في التليفزيون الإسرائيلي أن أولمرت حقق انجازاً كبيراً في المؤتمر وأن الوثيقة التي أعلنها الرئيس بوش جاءت ملبية لمطالب الجناح اليميني المتطرف في الحكومة الإسرائيلية، حيث لم تكن سوى "إعلان نوايا" فضفاضاً لا يلزم إسرائيل بشئ، وفي اليوم ذاته نقلت النسخة العبرية لموقع صحيفة "معاريف" عن مسئولين إسرائيليين حفاوتهم بالإنجاز الذي حققته بلادهم في المؤتمر، وقالوا أن تشديد البيان على اعتبار خريطة الطريق مرجعية وحيدة للمفاوضات يعني أن عملية التفاوض سوف تستمر إلى ما لا نهاية.
ü لم يكد أولمرت يصل إلى إسرائيل بعد المؤتمر حتى أعلن عن ثلاثة لاءات اعتبرتها الأهرام تهديداً بنسف الوثيقة التي لم يكن قد جف مدادها بعد، حيث صرح لوسائل الإعلام بأنه لا مجال للتفاوض حول القدس، وليس هناك التزام بموعد نهائي للمفاوضات، ولن يكون هناك اتفاق قبل القضاء على كل أثر للمقاومة التي وصفها بأنها ضمن خلايا "الإرهاب".
ü موضوع الجولان تم نسيانه، ولم يعد إلى ذكره أحد، ويعني أن "الوعد" بإدراجه لم يكن التزاماً بقدر ما كان "جزرة" أريد بها جذب سوريا لحضور المؤتمر، للإيحاء بأن كل العرب كانوا شهوداً على ما يجري فيه.
(3) بعدما أطيح بالمبادرة العربية، وتحول العرب إلى "كومبارس" في خلفية الصورة التي أحتل أولمرت صدارتها متكئاً على بوش في حين سار وراءهما أبو مازن، فإن الفلسطينيين خرجوا مكبلين بكارثتين من العيار الثقيل هما:
ü الإقرار في وثيقة التفاهم بمرجعية خريطة الطريق دون غيرها. ومن ثم إسقاط المرجعيات الأخرى بما في ذلك قرارات الأممالمتحدة، الأمر الذي ارتهن القضية كلها بالإرادة الأمريكية، ولا تنس أن الحكم في أي خلاف فلسطيني إسرائيلي صار أمريكياً أيضاً، وله خلفية تنسيق مع الإسرائيليين. وللعلم فإن الخريطة تتضمن ثلاث مراحل، وإسرائيل معنية بالمرحلة الأولى دون غيرها، التي تقضي بوقف العنف والتحريض عليه، مع عودة التنسيق الأمني بين الطرفين، وهو ما يعني إنهاء المقاومة وقمع معارضي الاستسلام لإسرائيل وملاحقة الجميع من خلال التنسيق الأمني. وفي المقابل تطالب إسرائيل بتحسين أحوال الفلسطينيين (!) وتجميد الاستيطان (بمعنى الإبقاء على الوضع الراهن كما هو ) والانسحاب من المناطق التي احتلت عام 2000 (وليس عام 67 بطبيعة الحال) وجدير بالذكر أن الأمريكيين والإسرائيليين متفقون على أن تنفيذ الالتزامات خاصة في هذه المرحلة الأولى، يجب أن يكون تتابعياً وليس تبادلياً، بمعنى أنه يجب على السلطة الفلسطينية أن تقوم أولاً بواجباتها في الخطة، وإذا ما نجحت في ذلك يأتي دور إسرائيل في الوفاء بالتزاماتها.
وفي هذه الحالة فإن السلطة الفلسطينية تصبح ملزمة بإعلان حرب مفتوحة على فصائل المقاومة، بالتعاون مع الإسرائيليين من خلال التنسيق الأمني معهم. وهو المشهد العبثي وغير المعقول الحاصل الآن في الضفة الغربية. وقد بدأت أولى حلقاته في نابلس، حيث قامت الأجهزة الأمنية الفلسطينية بالتعاون مع الأجهزة الإسرائيلية بملاحقة عناصر المقاومة وتجريدها من سلاحها، قبل الذهاب إلى "انابوليس" تأكيداً لالتزام السلطة بخريطة الطريق. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، لأن القيادة الإسرائيلية قامت بتزويد السلطة ببعض الدبابات الروسية والبنادق والذخيرة، لتعزيز قدرتها وإنجاح مهمة "التحرير" الجديدة التي بدأت في النهوض بها !!
هذا التحول المثير دفع بعض الباحثين الى المقارنة بين ممارسات الاجهزة الامنية الفلسطينية فى ظل حكومة سلام فياض وبين جيش لبنان الجنوبي الذى قاده انطوان لحد، واشنأته اسرائيل لتعزيز مصالحها الامنية فى لبنان. وقد اشار الى هذه المقارنة الدكتور غسان الخطيب الذى تولى عدة مناصب وزارية فى حكومات ابو مازن، فى مذكرة اعدهاه بالتعاون مع بعض الباحثين الاسرائيليين- ومن هؤلاء العقيد المتقاعد دانى رشيف الذى كان من بين الذين اشرفوا على تشكيل جيش لبنان الجنوبى. وفى سياق حديثه عن المقابلة بين الحالتين اللبنانية والفلسطينية قال ان "القوتين العسكريتين دربتا وجهزتا من جانب قوات اجنبية لمواجهة اجنحة في مجتمعها وليس لمواجهة عدو خارجى.. وهو ما يهدد شرعية اجهزة الامن الفلسطينية لان المجتمع سينظر اليها باعتبارها تخدم العدو الاول للفلسطينيين".
ü الكارثة الثانية تمثلت فى تبنى الوثيقة لما سمى برؤية بوش، التى اطلقها فى عام 2002 ودعا فها الى اقامة دولتين احداهما اسرائيلية (خالصة لليهود) واخرى عربية لتستوعب الفلسطينيين ومصممة بحيث تتوافق مع المصالح الاسرائيلية وهو ما أعلن عنه صراحة شمعون بيريز ورددته وزيرة الخارجية تسيفى ليفنى فى مؤتمر الدول المانحة الذى عقد فى نيويورك خلال سبتمبر الماضى. من ثم فهذه الدولة لا علاقة لها بالحلم الفلسطينى، لانه اريد لها ان تكون حارسه للحلم الاسرائيلى. اذ هي حسب رؤية بوش ليست مستقلة ذات سيادة، ولكنها كيان هلامى حدوده مؤقتة، منقوص السيادة ومنزوع السلاح. بل انها ليست على الارض المحتلة عام 1967، التى يؤيد الامريكيون الموقف الاسرائيلى الرافض للعودة الى ما وراء حدودها. ومن اسف ان ابو مازن تحدث اكثر من مرة عن انه يريد ان يستعيد من اسرائيل مساحة الضفة وغزة المقدرة ب6205 كيلو مترات مربعة، ولم يربط ذلك بحدود 4 يونيو 67، والمح هو وبعض اركان السلطة الى القبول بمبدأ تبادل الاراضي، الذى يعنى الابقاء على المستوطنات فى الضفة (150 مستوطنة يسكنها نصف مليون شخص اضافة الى 200 بؤرة استيطانية)، مقابل اعطاء الفلسطينيين مساحة مماثلة فى اى مكان آخر فى صحراء النقب مثلا. وخطورة هذه الفكرة تتمثل فى امرين، اولهما ان القبول بمبدأ تبادل الاراضى -الذى هو جوهر الصراع- يفتح الباب لتبادل السكان، ومن ثم طرد فلسطيني 1948 لتبقى اسرائيل لليهود وحدهم. والثانى ان اسرائيل التى تسرق 85% من مياه الضفة، اقامت المستوطنات من فوق 70% من هذه المياه. الامر الذى يعنى استمرار استئثار اسرائيل بتلك المياه. واجتماع هذين العاملين فى الدولة الفلسطينية "المزعومة" من شأنه ان يسهم فى الاجهاز على القضية الفلسطينية وتصفيتها. وهو ما يجعل "رؤية بوش" معادلة فى خطورتها لوعد بلفور، الذى به بدأت الكارثة الكبرى.
(4) اخشى ما اخشاه ان تبتلع الدول العربية الطعم المخدر، وتتوهم ان بشائر السلام قد لاحت، ومن ثم تبدأ فى التطبيع مع اسرائيل، ظناً منها ان الحل قادم فى الطريق لا ريب. وهو احتمال ليس بعيداً، لان بعض العرب طرقوا هذا الباب بعد اعلان المبادرة العربية (2002) التى رفضتها اسرائيل. حتى قرأنا تصريحاً لوزير خارجية خليجى التقى وزيرة خارجية اسرائيل قبل شهرين، وبرر لقاءه بانه كان يحدثها فى المبادرة العربية، كما ان وفداً يمثل الجامعة العربية زار تل ابيب لاول مرة فى تاريخ الجامعة، بدعوى شرح "المبادرة". واذا كان ذلك قد حدث فى ظل المبادرة المرفوضة، فاحتمال حدوثه اكبر بعد اعلان الوثيقة المشبوهة، التى كانت الوفود العربية من بين شهودها.
لا اعرف ان كان الدعاء يمكن ان يجدي فى منع وقوع هذه الكارثة ام لا، ولكن لا بأس من المحاولة، لانه فيما يبدو لم يعد لها من دون الله كاشفة. عن الشرق القطرية