واقعتان، إحداهما رمزية والأخري واقعية، أحتاج فيهما فطنة القارئ لاستخراج التصريح من التلميح، بمناسبة حبس أربعة صحافيين مصريين وعملاً بنصيحة الكاتب الإنكليزي/ الفيلسوف أرنولد : (أي كاتب يسجن بسبب ما يكتب يستحق الحبس!!) أي يقصد أن الكاتب يمكنه أن يكتب ما يشاء بأسلوب رمزي أي بأسلوب الحوارات التي تتم في كتاب كليلة ودمنة بين الطيور والحيوانات في الغابة مثلاً، لأنه لا بد من أن يكون فطنا، يتحرز عصر الطغيان الذي يكتب فيه، فإن لم يحترس فيستحق أن يسجن. ولكني لن أحترس، فعصرنا عصر الحرية، بل أزهي عصور الديمقراطية وما كان يجب أن يستغل هؤلاء الصحافيون مناخ الحرية هذا، ويسيئوا استغلاله واستخدامه فالحرية ليست مطلقة، وإنما سقفها هو بداية حرية الآخرين، فلك أن تختلف بل وأن تخالف، ولكن دون سب أو قذف أو اتهامات بغير أدلة، أو بغرض الابتزاز، فتكون المخالفة في الرأي ليست لمصلحة الوطن، ولكن جلباً لمغنم أو درءاً لمغرم. الواقعة الرمزية: قرية بائسة فقيرة ضعيفة خائفة، بها طاغية يطاع، يطلق عليه (الشوار) فلا يستطيع أحد من أفراد القرية أو ساكن من سكانها أن يقوم بأي فعل بغير مشورته، فهو كبيرها وسيدها وحاميها وصاحب الرأي السديد بوصفه الزعيم الملهم!! ولا أحد يفكر مثله، وذات يوم شعر صبي صغير دون التاسعة من عمره بالعطش، فاتجه صوب زير عميق ذي فوهة ضيقة تحت شجرة كبيرة وارفة الظلال علي جدول الماء لرافد ضئيل من روافد النهر الكبير، وكان علي هذا الزير غطاء خشبي مستدير، وفي وسطه قطعة خشبية أخري، ولكن في وضع رأسي كمقبض للغطاء الذي يوجد فوقه كوب من الصفيح الرخيص حتي لا يكون مطمعا للصوص حمل الفتي الكوب الفارغ ورفع بيده الأخري غطاء الزير ولكن لحظِه العاثر وجد الزير فارغاً إلا من بعض المياه الغائرة في قاعه، ولشدة عطشه مال بجسده النحيل ومد يده (بالكوز) وتدلي ذراعه الصغير في اتجاه قاع الزير، ولما لم تصل يده للقاع ساعدها لتستطيل بأن أدخل رأسه في فوهة (الزير) فانحشرت، وحاول أن يخرج رأسه ففشل، فصرخ وشاهده الناس فاجتمعوا حوله وتدبروا الأمر، فلم يهتدوا إلي رأي، وانتهوا الي حتمية الإستغاثة ب(الشوار) فاستجاروا به يسألونه: ماذا نفعل؟! فأشار عليهم بأمر حاسم: اقطعوا رأسه!! فصدعوا لرأيه وقطعوا رأس الطفل المسكين، ومن ذا يستطيع عصيانه، ورغم قطع رأس الصبي إلا أنها سقطت في الزير ولم يستطع أحد إخراجها لضيق الفوهة بالنسبه للرأس، فاستشاروا (الشوار) ماذا نفعل؟! فأشار عليهم بذات الحسم قائلا: (اكسروا الزير)! فصرخت أم الطفل في لوعة وأسي، فابتدرها (الشوار) بنظرة شزرة وهو يصرخ فيها: ماذا دهاك؟! ولماذا تبكين؟! وردت المسكينة الثكلي الملتاعة مرتعدة خشية أن ينال بقية أولادها مكروه من طغيانه وهي تقول: (أبقاك الله لنا، لا ندري إن لم تكن بيننا من ذا سيرشدنا ويشير علينا!! وماذا كنا سنفعل؟ ومن ذا يملك الحكمة والإلهام غيرك فأنت زعيمنا الملهم فداك إبني لما أحطتنا به من أمن وأمان واستقرار)! واقترب أحد الشيوخ للشوار بطلب أن يعين له نائباً حتي يعلمه الحكمة والمشورة!! ورد الشوار بصلف وغرور: لا أجد أحداً يصلح!! فتلك أفكار الطغاة، وهكذا تتم صناعتهم، حيث لم يواجهه أحد بأنه هو شخصياً لا يصلح. الواقعة الواقعية: شاب بائس يعيش مع أمه العجوز في بيت متهالك من البوص والطين في مدينة ساحلية في بلد أفريقي عربي، ضاقت به سبل العيش، وتعنت معه الزمن وسطا الصوص علي بيته فأحالوه أنقاضاً، واعتدوا علي أمه العجوز بالضرب ونقلت علي إثر ذلك للمستشفي، وجار بالشكوي للقسم والمحكمة والمسؤولين والمحافظ ورئيس المدينة دون جدوي، ولم ينصفه حتي كبار القوم الذين طلب تدخلهم ووساطتهم. وبينما هو في همه وغمه سرت في المدينة أنباء عن اعتزام الحاكم زيارة مدينته فسارع بإعداد مظلمة صمم أن يقدمها إليه بنفسه فهي الأمل الأخير لإنصافه، أو تدبير عمل يقتات منه أو مسكن يأويه مع أمه العجوز ولم يخلف الحاكم موعده، فحضر إلي المدينة في موكبه المهيب واقترب الشاب وبيده مظلمته وشكواه ليسلمها له بنفسه، وحاول الحراس أن يحولوا بينه وبين الحاكم ومنعوه ونهروه، إلا أن الشاب غافلهم واندفع إلي سيارة الزعيم شاهراً شكواه بيمناه فهي الأمل الأخير لعل الحاكم ينتبه إليه فيأمر حراسه بالسماح له بإفساح الطريق، أو يسمع استغاثته وهو ينادي عليه بعبارات الرجاء التي تعالت من شفتيه فيأمر باستلام المظلمة منه علي أحسن الظنون، ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث، فلم يأبه بصراخه الحاكم ولم يعره انتباهاً، ولم ييأس الشاب ظناً منه أن الزعيم لم يسمعه، فلم يخطر بباله أن الحاكم يشيح بوجهه عنه ويغض البصر عمداً بعيداً عنه فاقتحم صفوف الحراس ولمس بشكواه يد الحاكم. ولكن الحراس عاجلوه باطلاق النار عليه فأردوه قتيلاً في الحال، وطارت الشكوي في الهواء وسقط الشاب مضرجاً في دمائه، وانطلق الموكب في سلام وأمن!! وفي الصباح نشرت الصحف أن مختلاً عقلياً عرض نفسه للموت في موكب الرئيس، ونشرت صورة أمه وهي ترفع يديها للسماء كمن تبتهل الي الله وكتب تحتها كلمات منسوبة إليها: (إبني وكل أولادي فداء لسلامة زعيمنا)! ويقيناً الأم الملتاعة علي إبنها وفلذة كبدها سواء في القصة الرمزية أو القصة الواقعية كانت كاذبة لكونها مرتعدة خشية علي بقية اولادها، أو أملاً في تعويضها، والأغلب خوفاً من سطوة الطغيان، فهكذا يتم صناعة الطغاة!!