أصبح الانفجار مسألة وقت. هذا الانفجار الذي سيحدث من ناحية, بين الجيش النظامي الأمريكي وبين القوات الخاصة, أو ماتعرف بالمرتزقة, التي تستعين بها وزارة الدفاع الأمريكية في العراق منذ بدء الحرب, والتي وصل عددها الي مايقرب من عدد القوات النظامية, ومن ناحية أخري بينهم وبين الجيش العراقي. فقد أثار وضع القوات الخاصة في العراق استياء كبيرا بين قوات الجيش النظامي الأمريكي والعراقي, إذ اتهمهم أحد الضباط الأمريكيين المتقاعدين بأنهم يقاتلون في جميع ساحات القتال, ولا يخضعون لأية قوانين أو رقابة, ولا يرتدون الزي العسكري, بينما يشعر الجنود النظامية بالفارق في المعاملة خاصة في الرواتب, فيحصل الجندي النظامي في عام ما يحصل عليه جندي القوات الخاصة في شهر واحد. وفي حين يواجه الجندي النظامي المحاكمة العسكرية في حالة انتهاكه القوانين العسكرية, إذ قدم نحو60 جنديا أمريكيا في العراق الي المحاكمة العسكرية بعد ان وجهت لهم تهم بقتل مدنيين عراقيين, لا يخضع جندي القوات الخاصة إلا لقوانين الشركة التي يعمل لديها. ولقد تعددت وتزايدت حدة الانتهاكات التي يقوم بها جنود القوات الخاصة المرتزقة, والتي تندرج تحت مسمي جرائم الحرب والجرائم ضد البشرية, فقد كانت معركة الفالوجة, التي تحولت الي مجزرة دموية, عام2004, وقتل فيها27 جنديا من المارينز, وعدد غير معروف من المدنيين العراقيين, عملية انتقامية قام بها جنود المرتزقة ضد العراقيين الذين قتلوا ومثلوا بجثث أربعة من الحرس المرتزقة. وفي موقع آخر, يقوم جنود المرتزقة بالقتل من أجل القتل, فتردد أن أحد الجنود قال لزملائه صباح أحد الأيام, انه يرغب في قتل أحد اليوم, ثم توجه الي الخارج وأطلق الرصاص علي بعض المدنيين العراقيين, للتسلية, قتل منهم شخصا واحدا, بينما قام فريق من المرتزقة بإطلاق النار علي مجموعة من المدنيين العراقيين, في أثناء قيادتهم السيارة عبر المدينة, بدون أي سبب, ومرة ثانية أطلق المرتزقة النار علي سيارة أخري تقل عراقيين, ثم استمرت في طريقها دون حتي الالتفاف الي الخلف للتحقق من الخسائر التي ألحقوها بالسيارة وراكبيها, وفي موضع اخر, كتب أحد الجنرالات قائلا: كانت القافلة تسرع عبر المدينة, وكانت تطلق الرصاص عشوائيا, لتصيب أي شيء حتي ولو كانت مواقع للمارينز الأمريكيين. ولكن وزارة العدل الأمريكية رفضت اجراء تحقيق في تلك الحوادث, كما رفضت الوزارة التعليق علي أي منها. فمن هم هؤلاء الجنود المرتزقة؟ ولماذا تستعين بهم وزارة الدفاع الأمريكية؟ وما مدي نفوذهم وتأثيرهم وخطورتهم علي الجيش النظامي؟ وهل الاستعانة ب الجيوش الخاصة تعتبر ثورة في الشئون العسكرية, أم خطرا يهدد الديمقراطية؟ في كتاب نشر أخيرا, بعنوان بلاك ووتر: صعود أقوي جيش مرتزقة للكاتب الصحفي الأمريكي جيريمي سكاهيل, يؤكد الكاتب أن هذا الجيش الذي نشأ في التسعينيات, يهدد بكل تأكيد الديمقراطية الأمريكية, ولكن الخطر الأكبر هو أن يتشكل الجيش من جنسيات متعددة للمشاركة في الحرب التي أعلنتها الإدارة الأمريكية ضد الارهاب في أنحاء العالم, وبالذات في نفس تلك الدول التي يتكون الجيش المرتزقة منها. فمن هي بلاك ووتر؟ في التسعينيات نشأت شركات أمن خاصة في الولاياتالمتحدة, كان أهمها شركة تدعي بلاك ووتر في عام1993 لصاحبها ايريك برينس, أحد كبار المليارديرات الأمريكية الذين ينتمون الي اليمين المسيحي المتشدد, وعرفت عائلته بمساندة وتمويل حملات الحزب الجمهوري في الانتخابات, دون الحزب الديمقراطي علي مدي عدة أجيال. وأقام برينس شركته في مناطق المستنقعات الكبري في ولاية كارولينا الشمالية, وظلت تعمل الشركة بشيء من التواضع الي ان وقعت أحداث11 سبتمبر, وبدأت تعمل بكامل قوتها وبمساندة وزارة الدفاع الأمريكية. ويقول سكاهيل إن تلك الشركات ساهمت في الحروب في البلقان خلال فترة حكم الرئيس السابق بيل كلينتون, ثم في الحروب التي شنتها الولاياتالمتحدة ضد أفغانستان ثم العراق ثم أخيرا في الحرب علي الإرهاب, وجاءت تلك المشاركة بدعوة من دونالد رامسفيلد, وزير الدفاع السابق, التي أطلقها في10 سبتمبر عام2001, أي قبل يوم واحد من أحداث11 سبتمبر الشهيرة, ونادي فيها الي الاستعانة بقوات خاصة من أجل اصلاح وزارة الدفاع الأمريكية والقضاء علي البيروقراطية فيها, أي خصخصة الجيش الأمريكي, وهو ماعرف ب عقيدة رامسفيلد. ولكن في حقيقة الأمر, يقول سكاهيل, كانت الخصخصة مجرد جزء من الاجندة الأوسع, والتي وضعها تشيني نائب الرئيس, ورامسفيلد وزير الدفاع, في اطار مشروع كبير عرف فيما بعد ب القرن الأمريكي الجديد وهي العقيدة التي أطلقها ويليام كريستول أحد كبار المحافظين الجدد النشطين في عام1997, هذه المجموعة مارست ضغوطا علي كلينتون من أجل التدخل في العراق لتغيير النظام فيها, ولكن الأهم هو أن أفكارها ومبادئها التي تدعو الي سياسة القوة العسكرية تمثل الأساس الذي ستقوم عليه الأجندة الدولية لإدارة الرئيس جورج بوش فيما بعد. وفي عام2000, قبل أشهر قليلة من انضمام الفريق الي الإدارة الأمريكيةالجديدة تحت رئاسة بوش, أصدرت المجموعة مشروعها من أجل القرن الأمريكي الجديد في تقرير بعنوان إعادة بناء القوي الدفاعية الأمريكية: الاستراتيجية والقوي والثروات من أجل قرن جديد. وذكر التقرير أن التغييرات الجذرية في الآلة العسكرية الأمريكية قد تستمر طويلا, إلا إذا وقعت كارثة أو حدث عنيف, علي غرار بيرل هاربر. فكان أن وقعت أحداث11 سبتمبر, لتكون الكارثة أو المبرر غير المسبوق الذي ساعد علي البدء في تحقيق تلك الأجندة المتطرفة, وهكذا, دارت العجلة, ولم يعد من الممكن ايقافها. وبسبب تلك الأحداث, تصاعدت قوة بلاك ووتر ووصلت الي افاق واسعة لتصبح أكبر شركة خدمات عسكرية خاصة, واليوم أصبح للشركة أكثر من2300 جندي منتشرين في أكثر من9 دول في أنحاء العالم وداخل الولاياتالمتحدة نفسها, كما تملك قاعدة تضم21 ألف جندي سابق وعملاء شرطة متقاعدين يمكن استدعاؤهم في أي لحظة, وتملك بلاك ووتر اسطولا جويا من أكثر من20 طائرة منها طائرات مروحية عسكرية وفريق مراقبة, وتقوم بتدريب عشرات الآلاف من الشرطة العسكرية الفيدرالية والمحلية الأمريكية سنويا, كما تقوم بتدريب قوات من الدول الأجنبية التي تعتبر دولا صديقة. وفي الشركة قسم خاص لجمع المعلومات السرية, يعمل فيه عدد كبير من كبار المسئولين العسكريين ورجال المخابرات السابقين. وبدأت الشركة تتوسع, فقامت ببناء معسكرات جديدة في ولاية كاليفورنيا أطلق عليها بلاك ووتر الغربية وأخري في ولاية ألينوي أطلق عليها بلاك ووتر الشمالية, كما تقوم بالتدريب أحيانا في غابات دولة الفلبين. ولقد تعاقدت الإدارة الأمريكية مع بلاك ووتر بما يتجاوز500 مليون دولار, الي حد أن كتبت صحيفة ذا تايمز البريطانية تقول إن الأرباح العالية في العراق لا تأتي من البترول ولكن من الأمن, ويقول أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي أن بلاك ووتر تستطيع اسقاط أي حكومة في أي دولة أجنبية. ولقد تصاعدت ودعمت جهود وعمل الشركة الخاصة في العراق الي حد أن بول بريمر, المبعوث الأول لبوش في العراق أصدر قرارا قبيل هروبه السريع من البلاد بعد انتهاء مهمته, بعدم ملاحقة شركات المقاولات الخاصة قضائيا, فكان أن دعم القرار شركة الخدمات العسكرية في بلاد غاب فيها القانون تماما. ولكن إن كانت الولاياتالمتحدة قد لجأت الي خصخصة الجيش بعد أن لم تعد قادرة علي توسيع عدد قواتها منذ ألغت التجنيد لأسباب سياسية, وبعد أن فشلت في ايجاد دول حليفة تستطيع الانضمام اليها في حربها ضد الارهاب, وان كان استخدام المرتزقة يسهل عملية شن الحروب ويسهل للدولة خوضها, لأنها حروب امبريالية للهيمنة, فإن نفس تلك الجيوش الخاصة قد تكون هي نهاية الامبريالية الأمريكية, كما كانت بالنسبة للامبراطورية الرومانية من قبل. ولكن الخطر الحقيقي, هو كما يقول سكاهيل, الصحفي الأمريكي, مبدأ الحرب الدينية التي يقودها صاحب شركة بلاك ووتر اريك برينس, المعروف بنزعته المتطرفة, ودعمه للحرب الدينية من أجل نشر التطرف في كل مجالات الحياة الأمريكية وفي أنحاء العالم.