في اواسط شهر نيسان (ابريل) من العام 2003، اياما معدودات فقط علي دخول الجيش الامريكي للعاصمة بغداد، اعتمد الجنرال تومي فرانكس قرارا بحل حزب البعث، دونما الانتباه (او بادراك مسبق) الي ان حل حزب سياسي من لدن قائد قوات احتلال عسكري، ينفي الصفة القانونية علي قراره، حتي وان سوغ له الشكل، او برر له المضمون. وعلي الرغم من لاقانونية القرار اياه، فانه لم يثر كثير لغط ولا عظيم شكوي، ولا كان لمستويات الحزب المنحل من سبيل للتظلم، او التمنع او رفض الامتثال: فالدولة تهاوت عن آخرها، بعدما تبخر الجيش، ولزم قادته وجنوده منازلهم بانتظار المجهول القادم، او فروا لبلدان الجوار، او اختباوا بعدما تاكد لهم بالواضح الحي، ان لا مجال حقا للمكابرة، اللهم الا مجال الانتحار المؤكد، او الاعتقال. ومؤسسات البلاد، ذات الرمزية الكبري، كما ذات الاهمية المتوسطة، كما العديمة الاهمية حتي، استبيحت علي مرأي ومسمع من الجنود الامريكان، فنهبت محتوياتها، ودمرت مرافقها، وتم اضرام النيران في العديد مما تبقي من معالمها. وراس النظام، كذلك مقربوه ومعاونوه واركان حكمه، سلموا بالامر الواقع، فانصرفوا من ارض المعركة، ليتركوا الرعاع والغوغاء يسلبون وينهبون فتات ما تركت عصابات متخصصة وفرق تدمير، احل لها كل شيء سوي وزارتي الدفاع والنفط، حيث استبدلتا بوزارتين لهما افتراضيتين، اقيمتا بالكويت من مدة، وتم نقلهما لبغداد بعد الاحتلال. ولما كانت المنظومة برمتها (دولة ومؤسسات ومجتمعا) مرتكزة علي وحول حزب البعث، الحزب/القائد برؤية منظره ومؤسسه، فان قرار حله انما اتي للتاشير علي ان الذي صهر العراق دولة ومجتمعا ولعقود طويلة مضت، قد ولي الي غير رجعة، وان الحل اياه انما هو ايذان بان العراق الجديد لن يكون بالقطع نفس العراق الذي عهدناه منذ ستينات القرن الماضي، تاريخ وصول حزب البعث للسلطة. وعلي الرغم من ان قرار حل الحزب قد كان له وقع نفسي كبير، فان القرار اياه لم يكن له مضمون قانوني يعتد به، ليس فقط لانه صادر عن سلطات احتلال لا يجوز لها والبلد تحت الاحتلال، وبمنطوق المواثيق والاعراف، استصدار قرارات ذات طبيعة جوهرية، ولكن ايضا لان ذات الحل لم يكن مصحوبا بتدابير عملية او اجرائية او قضائية، يكون من شانها ترجمة القرار بارض الواقع، او منع الحزب قانونيا من الممارسة، او يحول دون اعادة تنظيمه تحت مسمي من المسميات. صحيح ان العديد من المنتمين للحزب قد تم فصلهم من وظائفهم، او تجريدهم من سلطاتهم، او احالتهم علي التقاعد ، لكن العملية بقيت برمتها هلامية، مشوبة بالغموض، اختزالية في الشكل وانتقائية بالمضمون. ولما كانت كذلك واكثر، فقد تمت الاستعاضة عنها بعبارة ادق واوضح ، حتي وان لم تكن الاختزالية والانتقائية منتفية من بين ظهرانيها: عبارة الاجتثاث التي استحدثها الحاكم المدني للعراق بول بريمر، واعتمدها سبيلا لتصفية البعث. وكلمة الاجتثاث تدل علي القطع والقلع، وتحيل علي جسم البشر في وضع الموت، مما يعطيها طابع القسوة والبطش. يقول بن مندور في لسان العرب: اجتثه، اقتلعه ، و الجث: القطع، وقيل قطع الشيء من اصله . والجثة هنا تحيل علي الجسد في وضع قعود او نوم. هي اذن عبارة متضمنة جهارة للقسوة، والعنف، والتطرف في فعل الاقتلاع والقطع. وهو حتما ما قصده بريمر وهو يعتمد القرار. يقول بريمر بمذكراته: ان اجتثاث البعث هو القضاء علي اطر الحزب، وطرد قيادته من مواقع السلطة والمسؤولية في المجتمع العراقي. وكان الهدف من ذلك ضمان ان الحكومة المنتخبة الجديدة للعراق، لن تقود الي عودة البعثيين . بالتالي، وعلي العكس من صيغة الحل المبهمة، والتي ذهب بجريرتها الآلاف من الابرياء في اعمال انتقامية شائنة، فان صيغة الاجتثاث دقيقة ، ومحددة بوثائق مجلس الحكم الانتقالي، كما بوثائق السفارة الامريكية ببغداد، كما بقانون ادارة الدولة، كما بالدستور الذي استقي من هذا الاخير مادته ومفاصله الكبري. بسن قانون اجتثاث البعث اذن، وباعتماده من لدن سلطات الاحتلال، انشئت لجنة شبه حكومية خاصة بتطبيقه، اوكل امر رئاستها لاحمد الجلبي السييء الذكر، واطلق عليها اسم الهيئة الوطنية العليا لاجتثاث البعث . لم تعمد الهيئة اياها الي الاجتثاث، اجتثاث حزب البعث، علي اساس حزبي خالص فحسب، بل امتد دورها ليطاول البعد الوظيفي ايضا. اي انه سري علي المراتب الحزبية الاربع الاولي (عضو فرقة فما فوق)، كما علي الموظفين الذين يشغلون الدرجات الاربع العليا في التنظيم الحزبي: قيادة قطرية، وقيادة فرع، وقيادة شعبة، وقيادة فرقة . واذا كان من المتعذر حقا، لدرجة الاستحالة ربما، معرفة كم عدد من طاولهم القانون (سيما بعدما احرقت مراكز التوثيق، ونهبت مصالح الاحصاء والمعلومات، ودمرت ارشيفات العديد من المؤسسات الحكومية)، فان مذكرات بريمر حددت عددهم في حوالي عشرين الفا، اي ما نسبته 1 بالمائة من منتسبي البعث، منهم من كان موظفا باحد الدرجات الاربع، ومنهم من كان استاذا بالجامعة، او باحثا باحد المراكز، او منتميا لسلك القضاء والعدل...لا تمييز في ذلك بين من كان انتماؤه للحزب مترتبا عن قناعة لديه قائمة، وبين من كان انتماؤه وسيلة لضمان لقمة عيش ابنائه. وبقدر ما لا يستطيع المرء تحديد كم عدد الذين شملهم احصاء هيئة الاجتثاث، فانه لا يستطيع بتحصيل حاصل، حصر عدد الذين فصلوا من وظائفهم، او اغتيلوا علي مرأي ومسمع من ابنائهم، او اختطفوا وعذبوا، وتم التشنيع بذواتهم. حلت المؤسسات اذن وانتهت بأيار (مايو) من العام 2006، دارت خلالها عجلة الاجتثاث بقوة، لتطلع الحكومة العراقية بآب (اغسطس) 2006 (وتحت مسوغ المصالحة الوطنية ) بقرار يروم ترتيب اوضاع 700 الف شخص شملهم قرار بريمر ظلما وعدوانا ، ولكأن القانون اراد التكفير عن ذنب اقترفه، او اصلاح خطأ ارتكبه. لا يبدو لنا ان في العملية ذرة نية بتكفير عن ذنب، او رغبة ما في تصحيح خطأ: فعملية الاجتثاث، في منطوقها الاصلي، صنيعة بريمر لوحده، لم يشرك فيها الا شكليا مجلس الحكم. هو (بريمر اعني) الذي سطر مضمونها، وحدد السقف الذي لا يمكن للحكومة او هيئة الاجتثاث ان تتجاوزه. والدليل علي ذلك ان الهيئة عملت، طيلة السنوات الثلاث الاولي، علي فرز و دراسة اكثر من 60 الف ملف، ضمنهم 40 الف عضو فرقة، ليخرج عليها الامريكان بقرار مفاده ان اعضاء الفرق غير مشمولين بالاجتثاث، لتضيع في لحظة واحدة، جهود اجتثاثية مضنية دامت ثلاث سنوات، استغرقتها في دراسة 40 الف ملف . بهذه النقطة، وبصرف النظر عن سقف الاجتثاث، الحزبي منه كما الوظيفي، فانه لا احد لحد الساعة حقا، يعلم علم اليقين، القوانين او المعايير او المقاييس التي اعتمدها بريمر بقانون الاجتثاث، ولا الاهداف المضمرة والباطنة التي ثوت خلف صياغته. وعملية الاجتثاث لم تكن تتغيا (علي الاقل بالقياس الي عدد المنتسبين)، اقتلاع البعث، بقدر ما هدفت الي اقتلاع من هم عصاة علي الاستقطاب من لدن المشروع الامريكي، ومن لدن الساسة الجدد الدائرين بفلكهم. وهو لربما ما ادركه احمد الجلبي، بمنتصف الطريق، حين تاكد لديه بالملموس القاطع، ان الامريكان غير مهتمين بما سيؤول اليه انتماء البعثي المجتث، ما يهمهم هو موافقته علي المشروع الامريكي والانخراط في تنفيذه . من حينه بدا الحديث لا عن البعث كحزب، بل عن البعث الصدامي ، باشارة الي من يقاوم الاحتلال باستحضار لفكر وروح الرئيس/الشهيد. هي اذن عملية ارتداد علي الاجتثاث بامتياز، تاتت من تاكد الامريكان بضرورة استعادة الاطر البعثية العليا، لادارة مفاصل الدولة، بعدما تبين لهم ان الذين جاؤوا بهم من علي ظهور الدبابات، هم اناس عديمو الثقة، ضعيفو الخبرة والقدرة علي التدبير، ناقصو الاخلاص، معدمو الكفاءة... وما سوي ذلك. ويبدو ايضا ان عملية الارتداد هاته، انما مصدرها حاجة الاحتلال الامريكي الي توليد بعث جديد ، بنفس وجوه البعث التاريخي، لكنه مرتبط بمشروعهم، منضبط لتوجيهاتهم، ينفذ ما يؤمر به، دونما التساؤل في الغاية او الهدف من ذلك...ولربما لهذا السبب بقيت صيغة حل الحزب مبهمة، ليصاغ قانون اجتثاثه بدقة متناهية، حتي وان بدت للعيان مبهمة. واذا كان الاحتلال قد استطاع استقطاب بعضا من اعضاء البعث قسرا او طواعية، او غض الطرف عن بعضهم، او لمح الي استعداده لمحاورة فصيله المقاوم، فلانه احس ليس فقط بحاجته لهؤلاء لتسيير دولة منفلت عقالها، منخورة بالفساد والاحتراب الطائفي وما شابه، بل وايضا لانه اقتنع بان تحريم حزب حكم لاكثر من ثلاثة عقود ونصف من الزمن، امر شبه مستحيل، وان اجتثاث حزب نصف الرجال البالغين به اعضاء، هو امر متعذر الادراك بكل المقاييس. ان اعضاء كثر من حزب البعث هم منذ اليوم الاول، منتظمون بصفوف المقاومة (تماما كجنود وضباط الجيش العراقي المنحل )، وهم بهذه الصفوف ليس فقط لان حزبهم حل وعشرات من الآلاف من منتسبيه قتلوا او شردوا او جوعوا، بل وايضا لان البلد الذي لطالما دافعوا عنه واحتموا بظله، بات تحت الاحتلال، فوجب العمل علي تحريره بمنطوق الشرع والاخلاق والمنطق. صحيح ان البعث صهر الدولة والمجتمع في بوتقة الحزب، وقام عليهم مجتمعين (حزبا ودولة ومجتمعا) بقوة النار والحديد...لكنه ضمن مقابل ذلك او عبره، امن العراقيين وامانهم، وصان وحدتهم، وضمن لهم مستويات عليا في التطبيب والتمدرس والشغل والتنقل والعيش الكريم. الم يصبح العراق اليوم مكمن الاجتثاث برمته؟ الم يبدا الناس في الترحم علي زمن الرئيس/الشهيد صدام حسين منذ اليوم الاول؟ الم تعد حكومات الاحتلال لنظام البطاقة التموينية التي سنها نظام البعث، فضمن بها كرامة العراقيين وهم تحت الحصار؟ لم لم تنجح الحكومات اياها في استوظاف بطائق سنها غريمهم، فلم تفرز علي ايديهم الا ايتاما، عراة، مقيدي الايادي علي الاسرة، تتناقل الفضائيات عوراتهم البريئة؟