الأداء البطولي الذي تبديه المقاومة اللبنانية في جنوب لبنان إذا استمر على النسق ذاته وبنفس المستوى أو يزيد فإنه يؤشر على أن عجلة الكيان الإسرائيلي قد غرزت هي الأخرى في المستنقع اللبناني، كما غرزت حليفتها الأميركية في الوحل العراقي، وهذا كله يدل على مدى غباء من يدير دفة القيادة ويمسك بأزرار الترسانات الصماء، البكماء، العمياء، القاتلة.. فكما هو معلوم أن التطبيق العملي والنتائج المتحققة على الأرض سلبا أو إيجابا، تعتبر المؤشر الحقيقي على سياسة القائد وما يتمتع به من كياسة وذكاء وخبرة ونظرة فاحصة يوزن بها الأمور، أو غباء مستحكم يصل به إلى فشل مرير ووضع كارثي. وما يحدث في لبنان وفلسطين والعراق من مجازر وانتهاكات لحقوق الإنسان، لهو خير برهان على رعونة وصفاقة هؤلاء الذين يقدمون أنفسهم على أنهم سياسيون وزعماء وقادة، مع أن هذه الأوصاف منهم براء. ولعل المتابع لمسار الأحداث في لبنان يرى السذاجة والغباء والحماقة التي يتحلى بها قادة الكيان الإسرائيلي الدمويون وحلفاؤهم، من استهداف البنية الأساسية وقتل المدنيين وخاصة الأطفال والنساء، مراهنين على حدوث فتنة طائفية وانقلاب داخلي على حزب الله، اعتقادا منهم أن الطريق إلى بيروت باتت ممهدة عبر التحركات السياسية المكثفة من قبل واشنطن وباريس نحو لبنان ، وتشكيل تيارات سياسية لبنانية متحالفة معهما ، كأرضية عمل يمكن البناء عليها ، منطلقين في ذلك من تجربة غزو العراق ، حيث سبقت الغزو تهيئة لذلك مع الأحزاب المعارضة ، ونفوذها الشعبي في الداخل ، لكن الذي حصل على الساحة اللبنانية هو خيبة أمل إسرائيلية أميركية ومعها فرنسية ، بفعل التماسك الذي أبدته الجبهة الداخلية ، لتسقط آخر ورقة توت كانت تستر سوءات الكيان الإسرائيلي والعواصم المتحالفة معه وتوقعهم في حرج شديد. إن الأرض اللبنانية لم تتخضب بدماء الأبرياء من قبل كما تتخضب اليوم ، والشعب اللبناني لم يعبث بدمه أعداء الإنسانية من قبل، كما يعبثون به اليوم ، ولا ريب أن مشهد مسيل الدماء ، وسقوط المباني على أهلها وشواهد القبور الجماعية، ستظل رمزا وشاهدا على العبثية الغربية بالدماء العربية، وكوقود يلهب مشاعر الكره والنزوع إلى الانتقام والثأر، لدى من سَلِمَ من آلة الموت والدمار الإسرائيلية ، أو من سيبصر النور بعد ذلك. وما دامت أي معالجة لأي قضية أو مشكلة لا تتم إلا بالرجوع إلى جذورها وأسبابها، فإن الشعب اللبناني مطالب اليوم بأن يربط المسببات بأسبابها، ليضع إصبعه على جرحه. عليه أن يعود قليلا إلى الوراء ليعرف من الذي كان يقف وراء صدور القرار 1559، ولماذا؟ وما الأهداف المتوخاة منه؟ لقد عودتنا سياسات القوى الاستعمارية صاحبة الأطماع ، أن ما يصعب الوصول إليه مباشرة، جِدْ له سببا ، وذريعة تَنَلْ ما تريد، فكان الوصول إلى أفغانستان بسبب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، واحتلال العراق كان بذريعة أسلحة الدمار الشامل، واليوم لبنان يحاصر ويدمر ويهجر شعبه ويقتل أطفاله ونساؤه، بمبرر أسر حزب الله لجنديين إسرائيليين، لتطبيق القرار 1559 الذي جاء هو الآخر بعد نجاح مخطط اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني الأسبق مباشرة ، ومحاولة إلصاق تهمة القتل ببلد حافظ على وحدة لبنان لسنوات طوال، من أجل إبعاد ذلك البلد الشقيق عنه ، وإلغاء فكرة تلازم المسارين. وما يندى له الجبين وينكي الجراح ، هو الفشل المتكرر لفرنسا صاحبة القرار (1559) سييء السمعة الذي أصدرته انتقاما من سوريا ، لرفض الأخيرة منح باريس امتيازات استثمارية وتسهيلات اقتصادية ، في وقف العدوان على لبنان، لِتَعَنُّتْ شريكتها وحليفتها (واشنطن) في صنع القرار، ليصار بالنهاية إلى توافق لمشروع قرار هزيل مفرغ من كل بنود القوة التي كانت فيه، لوقف العدوان. فواشنطن تريد مشروع قرار يحفظ ماء وجه جيش ربيبتها المهدور في جنوب لبنان، ويكون بمثابة رافعة للعجلة الإسرائيلية التي توشك أن تغرز هناك. على ضوء الاستبسال منقطع النظير الذي أبرزه حزب الله بقلة أفراده وعتاده مقارنة بعديد جيش الكيان الإسرائيلي وترسانته التي لا تضاهيها ترسانة دول الشرق الأوسط مجتمعة، بدت مخاوف تطفو على السطح من أن تتكون أحزاب نظيرة لحزب الله، ولعل المذكرة التي بعث بها السفير البريطاني وليام باتي إلى رئاسة الحكومة البريطانية وجرى تسريبها لوسائل الإعلام، محذرا فيها من انزلاق العراق إلى حرب أهلية، ومسلطا الضوء على جيش المهدي التابع لمقتدى الصدر، كسبب أول فيها، وضرورة مقاتلته ومنعه من إقامة دولة داخل دولة، ثم يلتقط خيط الحديث منه قائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال جون أبي زيد، أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ، ليقول إن العنف الطائفي في العراق بلغ أسوأ مستوى وقد يؤدي إلى حرب أهلية، وكذلك تصريح بعض المسئولين الأميركيين بأن السنة العرب في العراق هم اليوم أقرب إلى الجانب الأميركي، تشي بأن هناك أمرا يدور تحت الكواليس لا يعدو عن ثلاثة أمور: أولها: تفادي نشوء حزب في جنوب العراق على غرار حزب الله في جنوب لبنان، بقيادة جيش المهدي ، وخصوصا هناك إرهاصات تتجه إلى هذا الأمر ، لا سيما وأن جيش المهدي، تشكل نتيجة غباء سياسي، باستفزاز القيادات الدينية بالاعتقال وإلصاق تهم، كمحاولة اعتقال مقتدى الصدر بزعم ضلوعه في مقتل الإمام الخوئي، وحل الجيش العراقي ووجود احتلال على الأرض وفراغ أمني، كما هو الحال تماما مع حزب الله في لبنان، إذ ساهم الفراغ الأمني والاحتلال الإسرائيلي، في تكوين الحزب وظهوره كقوة رافضة للاحتلال. ثانيها: توطئة لإطلاق شرارة الحرب الأهلية، إذا ما طال أمد المواجهة بين حزب الله والكيان الإسرائيلي لتتوسع إقليميا لتشمل سوريا ، بهدف تشتيت الدور الإيراني وتحجيمه عن مساندة حليفتها سوريا. ثالثها: ربما يراد من تلك التصريحات بعث رسالة لطهران بأن لدينا نحن أيضا ورقة ضغط، إذا عمدت إلى تقوية حزب الله وتعضيد سوريا ، أو ربما الاستمرار في برنامجها النووي. من كل ما سبق يمكن الخلوص إلى عدة نتائج: أولا: صوت الحق والعدل دائما الأثبت والأعلى، على صوت المدافع والقاذفات والقنابل الذكية والغبية. ثانيا: على الشعوب التي تتباهى بديموقراطيتها على شعوب العالم الثالث أن تختار القائد الكفء والسياسي المحنك الذي يجيد لعبة السياسة بالعقل لا بالمدفع وإراقة الدماء، وأن تضع نصب عينيها عند اختيارها زعيمها، إما أن ترفع شأنها وتكسب الاحترام أو أن تحط منهما. ثالثا: من أعماه اليوم طمع في جزرة، فغداً يقلب عليه ظهر المِجَن، وتقع العصا على رأسه، فعندما تتقاطع المصالح، تسقط مصطلحات صديق وحليف، فها هي فرنسا، سايرت ركب مصالح الولاياتالمتحدة، لكن عندما أتت مصلحتها، بذلت كل جهد لاستصدار مشروع قرار بوقف العدوان، لتحصل في النهاية على فتات. رابعا: المقاومة تولد من رحم الاحتلال، ولا سبيل لجثها من جذورها إلا بزوال مُسَبِّبِهَا.