توقع تقرير صادر عن معهد ستراتفور أن تواصل مصر الاعتماد على المساعدات الخارجية، وأن تتخلى عن إصلاحات اقتصادية صعبة ولكن ضرورية. ويشير التقرير إلى أن الحكومة ستتخذ قرارات مرتبكة لتقليص حجم الواردات وكبح جماح أزمة الدولار. وسيثير سلوك القاهرة المتخبط تساؤلات لدى مواطنيها بشأن قدرة قيادتهم على إحياء الاقتصاد، بما سيزيد من الاضطرابات في البلاد. تحليل ما ينفك الاقتصاد المصري يخرج من أزمة حتى يدخل في أخرى. فقد استنزفت القاهرة جميع احتياطياتها من النقد الأجنبي، وهي تبدو غير راغبة في التحرك بسرعة أكبر بشأن اتخاذ إصلاحات اقتصادية مؤلمة من شأنها تخفيف عبء العجز الثقيل. ولكن، طبقًا للتقرير فإن شعبها معتاد على برامج الدعم الحكومية الواسعة المدى، التي لا تزال صامدة إلى حد كبير بفعل المساعدات الخارجية. ولكن قد ينهار الاستقرار الهش في البلاد إذا ما فشلت الحكومة المصرية في إيجاد وسيلة للحفاظ عليها. ينظر إلى مصر كحليف استراتيجي في الأوساط الغربية والإقليمية في منطقة الشرق الأوسط طوال تاريخها الحديث. وهو ما يرى معهد ستراتفور أنه سيدفع بداعمي القاهرة للتأكد من أن يظل الاقتصاد المصري صامدًا حتى مع تدهوره، ولكن هذا لن يخفف من هموم الشعب حتى إذا قبلت مصر مساعدة الدول الأخرى للحفاظ على تدفق الأموال. وبينما تزداد الانتقادات إلى الحكومة بسبب تدهور الاقتصاد، يزداد خطر تفجر الاضطرابات. استنزاف احتياطيات مصر من الدولار ازداد الطلب على الواردات في استجابة لضعف الدولار أمام الجنيه في أوائل الألفية الجديدة عندما كانت الأسواق هادئة وارتفعت أسعار النفط، مما أدى إلى ارتفاع الاحتياطيات الأجنبية في مصر بشكل مطرد. وفي الوقت نفسه، ازدادت شهية الشعب للسلع الأجنبية، فبدأت واردات مصر تزيد على صادراتها. وأدت زيادة الحصيلة الدولارية القادمة من واردات السياحة وتحويلات المغتربين والاستثمار الأجنبي المباشر إلى رفع نسبة الاحتياطيات الأجنبية، مما أدى إلى ارتفاع قيمة الجنيه المصري. يرى التقرير الصادر أن مصادر الدخل تلك تجف الآن. وفي محاولة منها لوقف نزيف العملات الصعبة بسبب تراجع عائدات الاستثمارات الأجنبية والسياحة، سعت مصر إلى خفض فاتورة وارداتها الضخمة. ففي يناير الماضي، اقترح محافظ البنك المركزي طارق عامر تقليص حجم الواردات، التي كلفت البلاد ما يقرب من 80 مليار دولار في عام 2015، بنسبة تصل إلى 25 في المئة في عام 2016. ولكن خطوات تنفيذ القرار اتسمت بالفوضى لصعوبتها الشديدة. ازدادت الضغوط، ولا تزال، بشدة على الجنيه المصري بسبب احتدام المنافسة بين الشركات والمستهلكين المصريين على ما تبقى من المعروض من الدولار، فالمستوردون المصريون يعانون بشدة للحصول على الدولار لشراء المواد اللازمة لإنتاج السلع التي يقومون بتصديرها. يرى تحليل ستراتفور أن القاهرة قد تضطر للرد على هذا الضغط من خلال السماح بتداول الجنيه المصري بسعر صرفه الحقيقي. يتراوح سعر الدولار في السوق السوداء للعملة، والتي تزدهر باطراد منذ أوائل عام 2015، الآن بين 9.6 و9.8 جنيه مصري للدولار، بينما يبلغ سعر الصرف الرسمي حوالي 7.8 جنيه مقابل الدولار. ولكن ذلك من شأنه أن يتعارض مع البيان الأخير الصادر عن طارق عامر الذي قال فيه إن مصر لن تخفض قيمة عملتها بما يزيد من مخاطر ارتفاع التضخم وتكاليف المعيشة، والتي ما انفكت ترتفع منذ قيام الثورة المصرية عام 2011. ولكن مرة أخرى، إذا لم تخفض القاهرة من قيمة الجنيه، فعلى الحكومة استمرار دعم العملة مع تقلص احتياطياتها الأجنبية باستمرار. سياسات عشوائية لا تحظى بالثقة يرى التقرير أن قرارات الحكومة المصرية تجاه الأزمة اتسمت بالعشوائية وقد تحمل نتائجها المستوردون والمستهلكون، فقد ردت الموانئ المصرية شحنات من القمح وفول الصويا في وقت سابق من هذا العام، على الرغم من ازدياد الطلب عليها بين المصريين. تقول سلطات الحجر الزراعي إن الشحنتين احتوتا على مستوى عالٍ من فطر الشقران والجراثيم. معظم سكان مصر البالغ عددهم 90 مليونًا يشترون السلعتين، ومع تواتر تقارير تفيد بوجود شح فيهما، يخشى عديدون من أنه قد يصعب الحصول عليها وارتفاع أسعارها. ربما تكون تلك الادعاءات صحيحة، ولكن ستراتفور يرجح بأن مصر قد ردت تلك الشحنات لعجزها عن سداد ثمنها، وبينما تحاول مصر إيجاد حل لمعضلتها المالية، فهي تحاول جاهدة عدم إثارة القلق لدى الرأي العام حول إمدادات الغذاء، لأن الأمر قاد أكثر من مرة إلى أحداث شغب في الماضي. كل ما سبق جعل من مصر شريكًا تجاريًّا يفتقر إلى الكفاءة. ونتيجة لتلك القرارات العشوائية وعجز مصر عن سداد المدفوعات، تعين على البلاد سداد مبالغ إضافية لتغطية مخاطر الاستيراد. تحاول مصر حل مشكلتين متناقضتين، مما جعل الحلول المتبعة لمواجهة الأزمة تتسم بالبطء. تسعى القاهرة إلى طمأنة الشركات العاملة بداخلها أنها ستعالج أزمة الدولار حتى تتمكن من سداد ثمن وارداتها. من ناحية، يرى التقرير أن مصر يمكن أن تقلص عجز الموازنة، عبر تقليص حجم الواردات المتضخم ومساعدة الشركات المصرية عبر خفض قيمة الجنيه، مما قد يقلل من استنزاف الاحتياطيات الأجنبية من العملة ويزيد من حصيلة الدولارات التي يمكن للشركات اقتراضها من البنوك. ومن ناحية أخرى، سيؤدي خفض قيمة العملة إلى ارتفاع نسبة التضخم وارتفاع أسعار الغذاء، مما سيزيد من معاناة المواطن المصري العادي ويزيد من مخاطر الاضطرابات. أدت بعض السياسات، مثل قيام البنك المركزي بفرض حد أقصى على إيداعات العملة المركزية من جانب المستوردين المصريين في أوائل العام 2015، إلى خلق حالة من الشك بين صفوف الشعب، فثارت تساؤلات حول تلك السياسات وتمنع انهيار الاقتصاد. فتصاعدت حدة الغضب اتجاه الحكومة خلال الشهرين الماضيين من قبل المواطنين والشركات على حد سواء. عاد البنك لاحقًا ليرفع الحد الأقصى للإيداع في منتصف فبراير، ثم ما لبث أن قام بإلغائه في 8 مارس الجاري. كما وضعت الحكومة سقفًا على إيداعات المسافرين من العملة الأجنبية في منتصف فبراير، قبل أن تقوم بتعديله بعدها بأسبوعين. اتبعت الحكومات في مصر استراتيجية وضع سياسات واختبار رد فعل الشعب عليها، ثم يجري تعديل تلك السياسات وفقًا لردود الأفعال، قبل أن تقوم ببساطة أخيرًا بإلغائها. لكن مثل هذه الاستراتيجية لا يمكنها الصمود إلى الأبد. خيارات القاهرة تنفد يرى محللو معهد ستراتفور أن الحكومة المصرية قد تستجيب للوضع بواحدة من ثلاثة طرق. أولًا، يمكنها تفكيك بعض برامج الدعم، والقيام بالإصلاحات المقترحة التي قدمتها إلى البرلمان المصري، حيث سيؤدي رفع الدعم إلى تنفيذ مطالب البنك الدولي لمنح مزيد من القروض إلى القاهرة. يشير التقرير إلى أن مصر حققت بالفعل بعض التقدم منذ 2014 في رفع الدعم عن الطاقة والغذاء. إلا أن قدرتها على مواصلة خفض الدعم تبقى محدودة. ثانيًا، تقليل قيمة الجنيه المصري، وردع النشاط في السوق السوداء والحد من الطلب على الواردات غير الضرورية. ولكن قبل القيام بذلك، تحتاج مصر إلى زيادة حجم الاحتياطيات من النقد الأجنبي. وأخيرًا لن يكون أمام القاهرة سوى أن تطلب المزيد من المساعدات والاستثمار الخارجيين والإذعان لمطالب الدائنين الفردية في مقابل الحصول على مبالغ مالية، وهو السبيل الذي من المرجح أن تسلكه القاهرة في الفترة المتبقية من عام 2016. وعد مجلس التعاون الخليجي مصر بالفعل بمنحها عشرات المليارات من الدولارات كمساعدات على مدى السنوات الخمس المقبلة في مقابل مشاركة أكبر من قبل الجيش المصري في قوات التحالف التي تقودها السعودية في اليمن، لكن الدول الخليجية المنتجة للنفط لم تعد مصدرًا يعول عليه كما كانت في السابق وذلك بسبب الانخفاض الحاد في أسعار النفط. وقد وافق البنك الدولي على منح 3 مليارات دولار في شكل قروض، لكنه رهن الأمر بإنجاز الإصلاحات المطلوبة، التي ما يزال البرلمان يماطل في تمريرها. تقدم الولاياتالمتحدة 1.3 مليار دولار لمصر كمساعدات أمنية كل عام مقابل ضمان دعم مصر لأنشطة الولاياتالمتحدة في المنطقة، وقد منح البنك الإفريقي للتنمية القاهرة قرضًا بقيمة 500 مليون دولار في ديسمبر كانون الاول عام 2015. وأخيرًا التزمت كل من الصين وكوريا الجنوبية باستثمار 15 مليار دولار و3 مليار دولار في مصر في شهر فبراير وحده، لكن الدول المانحة من شرق آسيا تريد شيئًا في المقابل، فهي تأمل في إرساء مناقصات على شركاتها. وبصرف النظر عن توقعات المقرضين، ستواصل مصر الاعتماد على المساعدات الخارجية للحفاظ على دوران عجلة الاقتصاد المصري، وتدبير احتياجات الاستيراد الشهرية وسداد تكاليف الدعم الذي يبلغ حوالي 6 مليارات دولار، وهو رقم لا يمكن أن تأمل القاهرة في دفعه بمفردها. وقد أعلن صندوق النقد الدولي مؤخرًا أنه سيمول منتجي النفط في إفريقيا من دون شروط، وهو ما يمكن أن يمثل أفضل فرصة للقاهرة لتأمين التمويل دون الحاجة إلى تقديم وعود صعبة في المقابل. في الواقع، وعلى الرغم من نفي محافظ البنك المركزي، قررت مصر اعتبارًا من 9 مارس بدء محادثات للحصول على قرض من صندوق النقد الدولي، الذي قال إنه مستعد للتعاون مع مصر. وفي كلتا الحالتين، سوف تستمر مصر في فعل ما فعلته منذ انتهاء الثورة في البلاد، وهو أن تعتمد على حلفائها للحصول على التمويل.