لم يتحدث اي مسؤول اميركي (عسكري او سياسي) عن موضوع الانسحاب منذ بداية الغزو الاميركي ربيع عام 2003، حتى نهاية تشرين ثاني/نوفمبر عام 2005 إلا في مناسبتين متباعدتين، الاولى في الاسابيع القليلة التي تلت دخول بغداد في (9/4/2003)، وحدد القادة العسكريون مدة قصيرة لا تتجاوز السنة او اقل للبدء بعودة الكثير من الجنود الاميركيين الى عوائلهم في الولاياتالمتحدة الاميركية، كما ان كيسنجر وزير الخارجية الاميركي الاسبق وواحدا من كبار المنظرين الاستراتيجيين في الولاياتالمتحدة قد وضع سقفا زمنيا قال ان اقصاه سنتان، يتم فيها تشكيل حكومة في العراق، وبناء مؤسسات إدارية وأمنية، ويتم خلال هذه الفترة سحب أعداد من الجنود الاميركيين، وردد الحديث عن عودة الجيش الاميركي عدد من القادة العسكريين في العراق، من بينهم الجنرال تومي فرانكس قائد القوات الاميركية التي غزت العراق في التاسع من آذار/ مارس 2003، واستند الاميركيون من سياسيين وعسكريين في حديثهم عن (عودة الجنود) الى قناعة راسخة تذهب باتجاه فرض القوات الاميركية كامل سيطرتها على العراق، وأن أبناء الرافدين سيستقبلون الجنود الاميركيين بباقات الزهور والزغاريد والفرح الممتد على جميع مويجات نهري دجلة والفرات، ويعلو كل سعفة من نخيل العراق الباسق من الفاو حتى تلعفر في اقصى الشمال العراقي. لم تخالج الاميركيين لحظة شك ب(عودة جنودهم) الى عوائلهم بأقرب وقت، ونلاحظ ان كيسنجر وتومي فرانكس وغيرهما، استخدموا عبارة (عودة الجنود) ولم يستخدموا كلمة (الانسحاب)، ومن المعروف في اللغة، ان لكل واحدة دلالاتها اللغوية، فالعودة تجري اختيارية، وفي ظرف يزخر بالامن والطمأنينة، ولا يقال عن الذين يغادرون ساحات المعارك ب(العائدين)، فإما يوصفون ب(الهزيمة) أو (الانتصار)، إلا أن استخدام لفظ (العائدون)، فإن ذلك ينطلق من الثقة المطلقة، بأن الاوضاع في العراق، بعد إعلان الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش بيان الانتصار الكبير في العراق والذي اعلنه في الاول من مايو عام 2003، ستكون مشابهة تماما للاوضاع التي عاشتها طوكيو عاصمة اليابان والمدن اليابانية الاخرى، ومثل ذلك برلين والمدن الالمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945. هذه القناعة الراسخة تولدت لدى القادة الاميركيين، واخذوا يطلقون التصريحات والتصورات في ضوء ذلك، لهذا فإنهم توقفوا عن الحديث عن (عودة الجنود)، ولم يسمع أحد بمثل هذا الكلام بعد شهر واحد من إعلان بوش (الانتصار) بتاريخ (1/5/2003). أما الحديث الاول عن (الانسحاب)، وليس عن (عودة الجنود) هذه المرة، فقد اطلقته كونداليزا رايس للمرة الاولى أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2005، ولهذا القول ظروفه التي سنتحدث عنها.