بقلم/ محمد عبد الحكم دياب* تطلع المصريون إلى مرشح للرئاسة في مصر تتوفر فيه المواصفات التي تمكنه من صياغة توافق وطني. مطلوب في ظروف تقتضي تجاوز ثنائية قائمة يرتاح لها حسني مبارك وعمل على استمرارها ضمانا لمخطط التوريث ونجاحه. وأصبح مستقبل الحكم يعتمد على المفاضلة بين مبارك الابن في مواجهة فزاعة الإخوان المسلمين المشهرة في وجه الداخل والخارج على حد سواء. وكان من المفترض أن يكون رئيس وكالة الطاقة النووية السابق محمد البرادعي هو ذلك المرشح الحامل لهذه المواصفات . وبدلا من أن يكون نقطة انطلاق نحو هذا التوافق حدث العكس وأصبح محل جدل ومثار خلاف، ولم تكن الجماعة الوطنية المصرية في حاجة إلى ذلك . وعلق معلق على إدانته لكامل السنوات الخمسين التي مضت دون تفرقة بين حقبة وأخرى من حقبها الثلاث. قال: ما الضير إذا كان هذا هو عرف الزمن وقانون القوة، و نيل تأييد الغرب للمرشح المحتمل تنفجر من أجله الصراعات وتراق في سبيله الدماء. ونظر شذرا واسترسل مستعيدا على مسامعي رسالة رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشعب، وسكرتير حسني مبارك الأسبق للمعلومات.. مصطفى الفقي. لماذا ننسى ما قاله بأن رئيس مصر القادم يأتي بموافقة أمريكية وقبول الدولة الصهيونية؟ لذا فعلى من ينوي الترشيح أن يمد بصره عبر حدود بلده.. في اتجاه واشنطن وتل أبيب، و يضع ذلك في حسابه. وعلينا ألا نبالغ ونرى في البرادعي غير ما فيه. فهو يعرف أكثر من غيره دور السياسة الغربية، ومواقفها من العرب والمسلمين، ويعرف أهمية مصر بالنسبة لتلك السياسة صاحبة المشروع الصهيوني.. العا ملة على استقراره وتأمين دولته. ووصفه لعبد الناصر بالطاغية هو لزوم ما يلزم . فالبرادعي ليس ذلك الثائر أو الزعيم التاريخي، الذي أودعت فيه المقادير سر أسرارها، فيكون على موعد معها تتغير فيه الموازين والمعادلات الراسخة في المنطقة لصالح الغرب والدولة الصهيونية . قلت لمحدثي: موقفي من البرادعي لم يكن مختلفا عن مواقف جل المصريين. وتغييره لم يأت بسبب إدانته لشخص عبد الناصر فحسب بل بسبب موقفة المعادي من عصر ومرحلة مثلت رصيدا تاريخيا وإنسانيا أعاد الاعتبار لذلك المشروع العربي التحرري الوطني الجامع . وأنا مواطن توجه إليه ذلك المشروع. فلم يكن محصورا في حدود نخبة ضيقة، وكان منحازا لمتوسطي الحال والفقراء والمستضعفين .. أعاد لهؤلاء آدميتهم وانتشلهم من قاع الذل والاستغلال والقنانة أخذ بيدهم. لم يتخل عنهم. كان منهم. نشأ فقيرا وعاش فقيرا وسوف يحشر في زمرة الفقراء . كان صادقا معهم لم يدغدغ مشاعرهم أو يخدعهم مثل غيره من الحكام والسياسيين، ومن والاهم من المداحين والمنافقين. سواء كانوا كتابا أو رجال دين. وترجم معنى قول النبي الكريم للصحابي أبي ذر الغفاري : ' تحيا مسكينا وتموت مسكينا وتحشر في زمرة المساكين'. وواصلت مع صاحبي : لو كان هذا الصحابي حيا الآن لظهر من يتهمه بالشيوعية، على طريقة شيخ الأزهر الجديد في رده على سؤال بشأن ضعف الأزهر، فذكر أن العيب لم يكن في الأزهر بل في فترة الخمسينات والستينات عندما كان الحكم ماركسيا.. يحارب الدين، على العكس من الرأسمالية، التي يراها قد وفرت ما أسماه بالحريات الأربع فيزدهر في ظلها الدين. والملفت أن الإمام الأكبر يردد مقولات قديمة. عفا عليها الزمن. استخدمها الغرب والدولة الصهيونية في الحرب النفسية ضد مصر في ذلك الزمان. كانت مصر والعرب في تلك المرحلة المدانة غربيا وصهيونيا محط أنظار العالم ومحل تقديره . كان اسم مصر والعرب محفورا من نور في قلوب وأفئدة المستضعفين والمتطلعين إلى التحرر والعدل . وعلمتنا التجارب أن الساعي لكسب تأييد الغرب وود ملحقاته العنصرية والاستيطانية هو في الحساب النهائي الخاسر الحقيقي . وإدانة تلك الحقبة بتلك اللغة العدوانية كشفت ضعف القدرة على القراءة الموضوعية لوقائع التاريخ وسير أحداثه. وبدت الإدانة حلقة في مسلسل الإدانات، التي تنسب إلى البرادعي ومنها رفض التعليم المجاني، مع أن شعار 'التعليم كالماء والهواء' كان لطه حسين، الذي شغل منصب وزير المعارف العمومية في حكومة الوفد الليبرالية، وجاءت الثورة فوضعت الشعار الوفدي موضع التنفيذ، واستكملت المجانية حتى غطت بها كل مراحل التعليم . ولولا ذلك الإنجاز ما صار التعليم بالنسبة للمصريين قاعدة ذهبية للحراك الاجتماعي والانتقال من وضع أقل إلى وضع أفضل. أعاد التعليم المجاني اكتشاف المواطنين لقدراتهم وإمكانياتهم الحقيقية، وكما كان التعليم طريقهم في البناء والتشييد ومضاعفة الدخل كان له دور بالغ في تحقيق النصر. فالتحول الذي حدث في نوعية الجندي المقاتل بعد هزيمة 1967. تحقق بالاعتماد على حملة المؤهلات العلمية، من خريجي المعاهد والجامعات، فاستوعبوا طبيعة وشروط الحرب الحديثة فكان لهم النصر في 1973. ومن لا يقر الحقوق الإنسانية للمواطن، ومنها حقه في التعليم سيستمر بمحنة مصر، التي تعيشها تحت حكم عائلة مبارك. تريق ماء وجهها أمام واشنطن وتل أبيب لتنصيب ابنها حاكما لمصر، وبالنتيجة خسرت المصريين، ومن المتوقع ألا يرث ابنها الحكم، فضلا عن زيادة كراهية الناس البالغة لها . وضمن هذا السياق نرى من المهم تقديم ثلاثة نماذج وطنية من تيارات رئيسية متباينة. عبرت عن قلقها من نهج البرادعي . يمثلها مساعد رئيس تحرير 'المصري اليوم' محمود الكردوسي . عبر عن رأيه ا لليبرالي مؤخرا قائلا: أن البرادعي سيخسر ونحن بالتالي سنخسر فرصة كانت تبدو مواتية تماما .. وأضاف إن الخلاف حوله يتصاعد بقدر ما يزداد الهوس به . وهذه حقيقة فكلما تحدث كلما زاد اختلاف الناس حوله . أما الكاتب والباحث اليساري أحمد الخميسي يرى في مقال له منشور على شبكة البث الألكتروني (الانترنت). أن أقوال البرادعي تصب في اتجاه تعديل الدستور، ونزاهة الانتخابات، وهو الاتجاه ذاته الذي تقنعنا به أمريكا من أن أساس مشاكلنا كلها ومصدر فرحتنا كلها هي ' الديمقراطية ' الشكلية، وليس غياب العدل الاجتماعي وانتشار الفقر والأمية ووقف التنمية الصناعية والزراعية، والأخذ بالخصخصة عمال على بطال . وفي الوقت الذي يقر فيه بأهمية الديمقراطية البالغة يرى أن تحققها يتم في إطار السعي للتنمية والخلاص من هيمنة صندوق النقد والبنك الدولي، وإلا صارت 'ديمقراطية ' كتلك التي في العراق، أي تحت وطأة الدبابات صاحبة الصوت الأعلى في أي انتخابات . وآخرهم رأي باحث إسلامي مرموق . يعمل رئيسا لمركز حيفا للدراسات. هو رفعت سيد أحمد . أصيب بالدهشة . في مقال له نشرته مجلة المصور المصرية الشهر الماضي . من كراهية البرادعي الشديدة لعبدالناصر ونظام حكمه، حين سئل عن والده وخلافه مع الزعيم العربي الراحل . يقول ان إجابته كانت شديدة القسوة على عبدالناصر، وكان اندهاشه الأكبر ليس 'من ذلك الرأي للإصلاحي القادم من الغرب'، على حد تعبيره، إنما من أولئك الناصريين الذين تكالبوا عليه وتحالفوا معه . وبعضهم رفعه إلى مقام ' المهدي المنتظر . ومعتبرا ذلك ازدواجية ' أصابت رفاقنا وأصدقاءنا الناصريين تجاه البرادعي الكاره لرمز أيديولوجيتهم '. ورأى أن كراهية النظام الحالي لا تكفي لتبرير صمت الناصريين على ما صرح به في حق عبدالناصر، وتساءل عن إمكانية بقاء تحالف قائم على الكراهية. ' هل يمكن له أن يبقى ويزدهر ويعمر الوطن'، وهو وطن يقول عنه انه يُبنى بالحب والبرنامج السياسي والاقتصادي الواضح في انحيازه للناس، وللأمة، تماما مثلما كان عبدالناصر وعصره رغم أخطائه أو حتى خطاياه !'. هذه الشهادات تبين مدى اتساع دائرة السجال السلبي حول ذلك القادم من الغرب حسب تعبير رفعت سيد أحمد . ومستواه في شخصنة الموقف من عبد الناصر، وهناك شهادات عديدة توفرها وثائق أخرى لمن يريد البحث. أيسرها مضابط اجتماعات اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية في تشرين الثاني/نوفمبر 1961، ومضابط المؤتمر ذاته، على مدى جلساته من 21 أيار /مايو 1962، مع تقديم مشروع ميثاق العمل وانتهاء بإقراره في 30 حزيران/يونيو سنة 1962، وذلك المؤتمر قرن إقرار الميثاق بتقرير ملحق به يلخص آراء وملاحظات والد البرادعي و غيره من أعلام ذلك الزمان . وعكف على صياغته عالم الجغرافيا الكبير الراحل سليمان حزين مؤسس جامعة أسيوط. من ينسى ذلك السجال بين الشيخ خالد محمد خالد وجمال عبد الناصر داخل المؤتمر، أو ذلك الجدال بين غريم الشيخ خالد.. الشيخ محمد الغزالي والزعيم العربي الكبير. ومن السهل الحصول على تقرير الميثاق. فهو مطبوع ومتداول في الأسواق. ومن لا يجده أهديه نسختي. والبرادعي إن لم يكن قد أخطأ في حق نفسه، فقد أخطأ في حق من أقبلوا عليه وناصروه وآزروه من العروبيين والناصريين والمتعاطفين معهم والمؤيدين لهم. كوفئوا بإدانة رمزهم وتجربته ذات التأثير الكبير في الوطن العربي وخارجه . ولم يكن مستغربا فخر زعماء التحرر في العالم، خاصة في أمريكا اللاتينية واعتزازهم بالانتماء لمشروعه، ونجد زعيما كشافيز يفخر بناصريته . أليس هذا رصيدا لمصر والعرب؟. لتأتي نخب تخطب ود واشنطن وتل أبيب فتبدده وتفرط فيه . والبرادعي الذي خسرنا الرهان عليه في تأكيد الخيار الثالث للخروج من أسر الثنائية المطروحة من جانب أهل الحكم . هذا الرجل قبل أن يقدم شيئا ملموسا يصف نفسه بالرمز . وكأنه غاندي أو عبد الناصر أو غيفارا أو الخميني أو أحمد ياسين أو حسن نصر الله . ووصفه لنفسه بهذه الصفة نوع من المبالغة التي تصل إلى درجة الغرور، من حقه أن يفتخر بمكانته الوظيفية وارتقاء المناصب الدولية، وهي لا تصنع رمزا ولا تحتضن زعيما. فالرموز والزعماء يخرجون من رحم الأوطان ويعيشون في حضن الشعوب. البرادعي وهو يوائم بين مقتضيات المنصب ومبدأ المعاملة بالمثل، كرئيس سابق للوكالة الدولية للطاقة النووية. أغمض العين عن الملف النووي الصهيوني، حرصا على المنصب. فهو يعلم أن الدولة الصهيونية صاحبة القول الفصل في إدارة أغلب المنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة، وعليه استمر في منصبه لثلاث دورات متتالية. وهي نفس المنظمة التي لم تتحمل بطرس غالي الكبير لأكثر من دورة واحدة أمينا عاما للأمم المتحدة، وهو ذلك الدبلوماسي المخضرم. المساهم في صياغة كامب ديفيد، ولم تسمح لفاروق حسني بدخول قصر اليونيسكو رغم وجوده وزيرا لأكثر من عشرين عاما في حكومة تتبنى التطبيع وتخنق الفلسطينيين. باختصار إن الرهان على غير الشعب حرث في البحر. * كاتب من مصر يقيم في لندن