من الواضح أن مقايضة من النوع المؤسف قد جرت بين الولاياتالمتحدة والحكومة المصرية تقوم على إطلاق يد هذه الأخيرة في التعامل مع الأوضاع الداخلية بالطريقة التي تراها مناسبة، بما في ذلك تمرير لعبة التوريث، مقابل التزامها بالخط الأمريكي في سياساتها الخارجية عربياً وإقليمياً.
لا يغير في هذه الحقيقة كل ما يقال عن تغييرات دستورية لم تقدم أي شيء على صعيد الوضع السياسي العام، فالرئيس باق في منصبه ما دام فيه عرق ينبض، كما قال، أما الخليفة أو الوريث فجاهز ينتظر الإشارة، بصرف النظر عن تطبيق السيد الوالد لمقولته أو الميل للتنازل عن العرش قبل مجيء ملك الموت.
الأهم أن الانتخابات الأخيرة التي حصل خلالها الإخوان على 88 مقعداً لم تغير في هذه الحقيقة لأن الأغلبية لا تزال في يد الحزب الحاكم، ولأن معادلة "الديمقراطية الديكور" لم تتغير، فهنا ثمة معارضة تصرخ، في مقابل سلطة تفعل ما تريد تحت ذريعة الأغلبية والأقلية. ونتذكر هنا لمجرد التذكر، كيف تصرفت السلطة أيام الانتخابات في بعض الدوائر، وكيف حولت بعض نواب الإخوان الفائزين إلى معتقلين، وذلك بعد أن تجاهلت هبّة القضاة في مواجهة التزوير، بل أسكتتها بالطرق المعروفة!!
في كل يوم نسمع عن اعتقالات في صفوف المعارضة، لاسيما الإخوان المسلمون، وهي اعتقالات لا تقابل بالحد الأدنى من الاستنكار في الأوساط الأمريكية والغربية، فضلاً عن الإمعان في سياسات شطب المعارضة في مختلف الجولات الانتخابية التي ينافس فيها الحزب الوطني، من النقابات المهنية والعمالية إلى اتحادات الطلبة. ولا تسأل بعد ذلك عن استخدام مؤسسات الدولة الإعلامية في هجاء جزء من المؤسسة السياسية، فضلاً عن مهزلة وزير الثقافة التي أثارت استياء البلد برمته، من دون أن تحرك السلطة ساكناً، أعني مهزلة شتيمته للحجاب والمحجبات في بلد ينص دستوره على أن دين الدولة الإسلام.
يحدث ذلك كله في ظل تململ الشارع المصري من تراجع الأوضاع الاقتصادية، واستشراء الفساد، الأمر الذي لا يجد أدنى صدى في الأوساط الرسمية، باستثناء مجاملات هنا وهناك كما وقع في سياق بعض الكوارث التي وقعت للمصريين في البحر وفي القطارات، والتي تكررت كثيراً في الآونة الأخيرة.
قبل شهور قرأت رواية (عمارة يعقوبيان) للدكتور علاء الأسواني، وعندما طرح الفيلم المأخوذ عنها في الأسواق حرصت على مشاهدته تبعاً للصورة السوداوية التي تعكسها الرواية عن مصر والمجتمع المصري، مع ضرورة القول إنه يسجل للرقابة تمريرها لفيلم من هذا النوع يفضح الفساد المستشري في الدولة وفي المجتمع، وصولاً إلى المؤسسة الأمنية (ملف التعذيب في أبشع تجلياته، لاسيما للجماعات الإسلامية)، مع التركيز على التراجع المزري في الأوضاع الاقتصادية. وقد قيل في هذا السياق إن منتج الفيلم عماد الدين أديب هو الذي تمكن من إقناع الرئيس المصري شخصياً بعرض الفيلم مستغلاً علاقته الخاصة معه.
وفيما كان رأيي أن ثمة مبالغة كبيرة في الفيلم، وبالضرورة الرواية، وأن مصر أفضل بكثير من ذلك، وجدت من بين المصريين من يدافع عن الفيلم، مشيراً إلى أن ما يجري لا يقل سوءا عما ورد فيه، وإن بدا أن الأبعاد الأخلاقية الشعبية ليست بذات السوء الذي تعكسه المشاهد والأحداث، وبخاصة موضوع المرأة والشذوذ في بلد ينتشر فيه الحجاب والصحوة الإسلامية على نحو لا يمكن لأحد إنكاره. وقد كان لافتاً في الفيلم الإشارة الواضحة إلى لعبة النواب والطريقة التي تشترى بها مقاعد المجلس كجزء من الفساد السياسي في الطبقة العليا، وهذا جانب آخر بالغ الأهمية، لاسيما إثر مجيئه بعد مسلسل النواب والتزوير الذي تابعه المصريون والعالم أجمع.
ما يعنينا أكثر فيما يجري، مع أن ما سلف هو مما يكدر خاطر أي محب لمصر وأهلها وتاريخها، ما يعنينا هو تلك الصفقة التي تسمح له بأن يجري دون الكثير من الضجيج، ودون الكثير من السماح للمعارضة بالتعبير عن رفضها له، والسبب هو تحلل الحكومة من ضغوط الخارج وشعورها بتوافر ضوء أخضر لها كي تفعل ما تشاء، وهنا تكمن المصيبة، إذ أن الثمن المدفوع لقاء ذلك كله إنما يأتي من جيب القضايا العربية الرئيسة، وبالضرورة من حضور مصر ودورها وأمنها القومي.
عندما نتحدث عن اقتصار الدور المصري في الملف الفلسطيني على الضغط على حماس من أجل منح اعتراف مجاني للعدو، مع الإفراج عن الجندي الأسير مقابل عرض بالغ الهزال يقوم على صدقة من العدو من دون صفقة واضحة ربما لا تتجاوز الإفراج عن مجموعة من الأسرى الذين شارفت أحكامهم على الانتهاء، فضلاً عن دعم فريق تعلم السلطات المصرية كل العلم أنه الأقرب للرؤى الإسرائيلية والأمريكية في تسيير القضية، عندما يحدث ذلك كله فإن مصر لا تضحّي بالقضية المركزية للأمة فحسب، وإنما بمصالحها القومية أيضاً.
عندما يتكرر الموقف في العراق الذي يشكل النجاح الأمريكي فيه كابوساً سيئاً للمنطقة كلها، وبالضرورة لمصر التي سيمنح دورها للدولة العبرية، وعندما يترك السودان نهب الضغوط التي ستضعه رهن الانتداب والتقسيم لولا الصمود المفاجيء لنظامه السياسي، عندما يحدث ذلك كله فإن ما يجري يستحق التوقف، ليس من الحكومة فحسب، بل أيضاً من المعارضة التي ينبغي أن تصعد ضغوطها من أجل إصلاح المسار السياسي برمته داخلياً وخارجياً.
إنها مهمة صعبة ملقاة على عاتق الشارع المصري وقواه السياسية، ونحن بدورنا، ومن منطلق محبة مصر، رائدة الأمة وقائدتها، ندعو الله أن يصلح الأوضاع، وبالطبع لما فيه خير مصر وخير الأمة، الأمر الذي لن يحدث ما لم تتغير بوصلة السياسة المصرية، وإن بدا أن الحراك الشعبي هنا وهناك قد أخذ يعوض الخسائر التي تتسبب بها الأنظمة، بدليل مقاومة فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان.