استشعر الكيان الصهيوني منذ بدايات احتلاله أرض الشعب الفلسطيني قضية الهوية مدركًا أن بقاء هوية الشعب "الفلسطيني" ضمان لاستعادة حقه ولو بعد حين لذلك عمد أبناء صهيون إلى محاربة كل ما يحفظ لفلسطين هويتها ليس فقط داخل الأرض المحتلة وإنما سعى الصهاينة إلى حصار أي نضال فلسطيني وأية جهود عربية منظمة في الخارج تسعى إلى تفنيد مزاعم لصوص أرض فلسطين وتعيد الحق إلى أصحاب الأرض. وأمام كل حراك فلسطيني أو عربي لم يضع العدو الصهيوني لحربه حدودا فعمد دوماً إلى سياسة التصفيات الجسدية والاغتيالات لكل رموز القضية. من هؤلاء الرموز كان الدكتور "محمود الهمشري" الممثل غير الرسمي لمنظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا الذي كان من المناضلين الأوائل في حركة "فتح" في كفاحها المسلح ونجح في إقامة علاقات واسعة مع ممثلي الرأي العام الفرنسي واستمال الكثيرين منهم لصالح القضية الفلسطينية. وُلد "الهمشري" في قرية "أم خالد" بقضاء "طولكرم" عام 1938 أى بعد الثورة الفلسطينية بعاميين أتم دراسته الابتدائية والثانوية بمدينة "طولكرم". انتقل إلى الكويت والجزائر حيث عمل في سلك التعليم والتحق بحركة "فتح" وجريدة "فلسطيننا" في لحظات تأسيسها الأولى بالكويت في اكتوبر عام .1959 أوكلت إليه مهمة العودة للأرض المحتلة ليعمل في تأسيس الخلايا الفدائية عام 1968 وعين معتمدا لحركة "فتح" وممثلاً ل"منظمة تحرير فلسطين" في باريس حيث أقام علاقات إيجابية مع الكثير من المنظمات السياسية الفرنسية و أسس فرع الاتحاد العام لطلبه فلسطين في فرنسا عام 1968. إتهمتة الصحافة الإسرائيلية بلعب دور في عملية احتجاز "رهائن" إسرائيليين والتي حدثت أثناء دورة الألعاب الصيفية في "ميونخ" عام 1972 . وحين عجز "الموساد" عن توجيه ضربات حقيقية وجوهرية لمخططي ومنفذي العمليات الخارجية ضد أهداف صهيونية قررت إسرائيل أن تضرب أهدافا سهلة ضد سياسيين أو ممثلين أو شخصيات بارزة في المجال الإعلامي كرد اعتبار للكيان الصهيوني ورفع الروح المعنوية لليهود والصهاينة. وكعادتها في التعامل مع الموضوع الفلسطيني، كان قرار "جولدا مائير" رئيسة وزراء الدولة الصهيونية في ذلك الوقت سحق هذه الظاهرة الجديدة بالحديد والنار. أما الحُجة فهي نفسها التي كانت دوما جاهزة في الأدراج الصهيونية ولم تتغير حتى يومنا هذا فالفلسطيني في روايتهم الزائفة "إرهابي" منذ ولادته حتى مماته . وفي صباح يوم 8 ديسمبر 1972 اتصل شخص ب "الهمشري" وادعى أنه صحفي إيطالي يطلب إجراء حوار معه وتم تحديد مكان اللقاء في مكتب المنظمة في "باريس" وفى هذه الأثناء قامت عناصر من الموساد بالتسلل لبيت "الهمشري" وزرعت عبوة ناسفة يتم التحكم فيها عن بعد وضعوها أسفل طاولة الهاتف ثم دق جرس الهاتف وما إن التقط "الهمشري" سماعة الهاتف حتى انفجرت وأصابته بجروح بالغة ونقل إلى مستشفى بباريس وظل يخضع للعلاج دون جدوى حتى توفى فى مثل هذا اليوم يوم 10 يناير عام .1973 ولم يكتف "العدو الصهيوني" بتصفية "الهمشري" بل راح يكرس بمقتله ويرسخ لفكرة أن "الفلسطيني إرهابي" مستغلاً الإشاعة التي راحت معظم الجرائد تتداول رواية أن "الهمشري" أصيب بالإصابة التي أودت بحياته أثناء تحضيره شحنة ناسفة في بيته. ورغم اعتراف الرئيس الفرنسي "جورج بومبيدو" بعد 10 أيام من الجريمة في لقاء مع الكاتب والصحفي الفرنسي "فيليب دوسانت روبير" بقناعته بأن الموساد هو المسئول عن الجريمة كما كشفه الكاتب في كتابه "سبتمبر الدائم" الذي نشره عام 1977 فإن البوليس الفرنسي لم يعلى أدنى اهتمام بالأمر ولم يسع إلى التحقق من صحة تلك المؤشرات. فقاضي التحقيق مثلاً لم يكلف نفسه عناء لقاء "الهمشري" خلال الشهر الذي قضاه في المستشفى قبل وفاته رغم حالة المصاب التي سمحت له باستقبال العديد من أصدقائه ومحبيه ومعارفه. ورفضت "دولة الاحتلال" دفن الشهيد في مسقط رأسه "طولكرم" لتغتاله مرة ثانية ورفض إمام جامع باريس "حمزة بو بكر" فتح باب الجامع أمام الجموع التي احتشدت لتأبين الشهيد مما أدى إلى صدامات عنيفة مع الشرطة الفرنسية التي اعتقلت على إثرها العشرات من المُشيعين الفلسطينيين والعرب. وفي النهاية أقيمت صلاة الجنازة على الشهيد ودفن في مقبرة "بير لا شيز" بحضور حشد هائل من الجمهور ومن الأصدقاء والمتضامنين معه ومع قضية وطنه . هكذا اصبح الشهيد محمود الهمشري محوراً للعمل الفلسطيني وللعمل المساند للحق الفلسطيني واصبح له أثر قوي في القوى الحية في المجتمع .