دعونا نبدأ الإجابة بسؤال مضاد : وهل انتصرت إسرائيل ؟ فهذا هو السؤال الواجب طرحه لأن إسرائيل هى التى بدأت الحرب ومن أجل تحقيق أهداف محددة أعلنت عنها بالفعل وهى : 1-وقف إطلاق الصواريخ 2- القضاء على حماس وكافة فصائل المقاومة. 3 – توفير الأمن لرعاياها.
دعك من الادعاءات الهزلية التى تنسب لإسرائيل ما لم تقله من أن حربها كانت لمجرد إضعاف حماس ثم الإبقاء عليها لتتخذ من وجودها حجة لمعاودة ضرب غزة، وكأن إسرائيل تعوزها الحجج لتبرير اعتداءاتها المتكررة ، وكأنها لا تحاصر الضفة وتبنى الجدار وآلاف المستوطنات فى مساحات لا تسيطر عليها حماس! فريق المقاومة يقول أنها لم تحقق شيئا ، والفريق المضاد يدعى أنها حققت جميع أهدافها . وفى اعتقادى إن كلا الإجابتين لا تنم إلا عن أمانى أصحابها لا عن ما تحقق على أرض الواقع فعلاً. لكن لنتفق أولاً على معنى " النصر" . لا شك أن المنتصر هو من يحقق هدفه النهائى من الحرب وإلا لنتفت الغاية من الحرب . فإن رجعنا لأهداف إسرائيل المعلنة نجد أنه من المستحيل التيقن من تحقيقها إلا بعد فترة قد تمتد لسنوات نرى فيها إن كان قد توقف إطلاق الصواريخ فعلا وعاش مواطنوها فى أمن وسلام أم لا . أما من حيث القضاء على حماس – كأكبر فصيل مقاوم – فحتى الإسرائيلون أنفسهم لا يجرؤون على الزعم بنجاحهم فى القضاء عليها.
فأى انتصار إذن يتحدث عنه عملاء إسرائيل؟! فإذا اتفقنا على أن إسرائيل لم تنتصر. . فهل انتصرت حماس؟
بداية علينا أن نتذكر أنها لم تكن البادئة بالحرب وبالتالى فلم يكن لها اهداف سعت لتحقيقها وإنما فرض عليها القتال فرضاً، فيصبح الحكم على انتصارها من عدمه مرهوناً بكيفية مواجهتها لهذا العدوان وحجم الخسائر التى أصابتها ، ثم البحث إن كانت قد حققت أى نصر أثناء هذه الجولة . وحتى نكون منصفين فعلينا ألا نحمل المقاومة فوق طاقتها لأن الجولة كانت أشبه بمباراة فى الملاكمة يواجه بطل العالم فيها صبياً صغيراًَ . من هنا نقول أن مجرد صمود الشعب الفلسطينى فى غزة وعدم رفعه للراية البيضاء هو انتصار لم يكن يتوقعه الكثيرون فضلا عمن كانوا لا يتنمونه أصلا من قادة العرب ! فما بالك وأنهم لم يصمدوا فقط وإنما كالوا الضربات للعدو وقذفوا فى قلبه الرعب حتى اضطر لغلق المدارس والجامعات فى المدن الواقعة فى مرمى صواريخ المقاومة . لا نريد أن نساير الانفعال العاطفى ونذهب لحد اعتبار ما تحقق هزيمة ساحقة لإسرائيل ، لكن فى نفس الوقت لا ينبغى أن نهون من مكاسب المقاومة فى هذه الجولة والتى يتحتم أن نقدرها ونقيمها على أساس نظرتنا لطبيعة الصراع بيننا وبين إسرائيل باعتباره صراعاً حضارياً ممتداً لم تحن بعد معركته الفاصلة.
من هذا المنطلق يمكننا مناقشة مدى حجم انتصار حماس كما يلى :
أولا :. كسبت المقاومة أرضا جديدة فى اتجاه تحقيق النصر النهائى بإثبات صحة توجهها وكشف زيف خيار التفاوض الذى تمسكت به السلطة فى رام الله.
ولتوضيح ما نقصده نفترض أن مجموعة من الناس ( هم الفلسطينيون ) أرادوا السفر من القاهرة شمالاً للأسكندرية ( وهو هدف تحرير الأرض وإقامة الدولة) فاختار فريق منهم ( وهم المقاومة ) السير على الأقدام فى اتجاه الشمال فهم بذلك سيصلون حتما لهدفهم لكن بعد مدة طويلة وجهد شاق ( إراقة الدم وتقديم الشهداء ) وهم كذلك فى رحلتهم سيحتاجون للراحة لإلتقاط الأنفس ( التهدئة أو الهدنة المؤقتة ) وقد يتعرضون لبعض المتغيرات والعراقيل والمفاجاءات ( هزيمة 67 وملاحقتهم فى عمان وبيروت ) وعلى الجانب الآخر نجد فريقاً (السلطة فى رام الله) استطاع بوسيلة ما الحصول على سيارة فارهة (الارتباط بأمريكا وإسرائيل) مما يساعدهم حتماً على الوصول للأسكندرية فى وقت يسير وجهد أقل، وهو افتراض صحيح غير أن شيئاً واحداً يفسده وهو أن تلكم المجموعة قد اتجهت منذ بداية حركتها فى اتجاه الجنوب أى أنها لن تصل أبداً للأسكندرية !! وهو ما نراه على أرض الواقع حيث دأبت سلطة رام الله على تقديم التنازلات دون مقابل أو عائد يكافئ حجم هذه التنازلات. يتساءل فريق المفاوضات عن حجم التضحيات - وكأنها تمسهم فى شئ ! – ونحن نقر بأن ألاف الأسر قد تشردت ومئات المدنيين قد استشهدوا وآلاف البيوت قد تهدمت . لكن من قال أن الثبات على طريق الحق لا ثمن له؟ لقد كنا نظن أننا قد أصبحنا أمة من أشباه الرجال فأثبت أبطال غزة أننا لسنا أقل من شعوب روسيا أو بريطانيا أو فرنسا أو فيتنام الذين ضحوا بالملايين- وليس الآلاف – من المدنيين فضلاً عن العسكريين دفاعاً عن أرضهم وكرامتهم.
ثانياً :- حققت المقاومة نصراً سياسياً كاسحاً . فمن ذا الذى كان يتخيل أن تنطلق المظاهرات بالآلاف فى معظم مدن العالم – حتى فى داخل أمريكا – تصف إسرائيل بالنازية وتحرر شعوبها من عقدة الهولوكست وتنهى للأبد حالة التعاطف مع اليهود!
ثالثاً : أحيت المقاومة البعد الإسلامى للقضية ، ولعل من أبرز مظاهر هذا الإحياء تلك المظاهرة المليونية التركية فى اسطنبول . كما استدعت مواقف المقاومة قيم الجهاد والاستشهاد التى كادت أن تندثر من قاموس حياتنا.
رابعاًً: اكتسبت المقاومة شعبية جارفة وأثبتت قدرة الشعب على التصدى للعدوان وتحقيق النصر فى ظل التفوق العسكرى لجيش العدو وانصراف الجيوش العربية لوجهة حماية الأنظمة وعروش الحكم. وبعيداً عن وصف الوقائع بكلمات رنانة، كعادة زعماء جهاد الميكروفونات ، يمكننا القول بأن حرب غزة وانتصار خيار المقاومة قد أرخ لبداية عصر جديد فى منطقة الشرق الأوسط بل وربما العالم كله، وهى بذلك قد انضمت لطابور مجيد من شرفاء العالم المعاصر يمتد من الجزائر والبوسنة والشيشان إلى فيتنام وجنوب أفريقيا و أمريكا اللاتينية.
خامساً : كشفت المقاومة مواقف الدول والشعوب حين خاضت بصدق حرب "الفرقان" ففرقت بين معسكر الاستسلام والعار والمهانة ومعسكر العزة والشرف والكرامة ولم تعد للمواقف المائعة الباهتة وجود . ونحن ندين لتضحيات المقاومة بهذا الحزم ووضوح الرؤى ، فكم تعرت وجوه وسقطت أقنعة وما هذا إلا من فضل الله ليميز الخبيث من الطيب.
سادساً : أجبرت المقاومة العالم كله – ربما باستثناء أمريكا- على الأعتراف بها واحترامها ، كما ذهبت فى تأكيد انتصارها لحد فرض شروطها بالنسبة للتهدئة المقترحة وتبادل الأسرى وفتح المعابر رغم ما تتعرض له من ضغوط الأشقاء قبل الأعداء! . هل سمعتم عن منهزم يفرض شروطه ؟! لا ندعى أن المقاومة ستنجح فى فرض شروطها كلها لكن يكفيها الجسارة فى إعلانها بإباء وشموخ المنتصر. سابعاً : جددت المقاومة إيقاد نار الكراهية ضد إسرائيل بعد أن كادت أن تخمد بفعل التطبيع . وهذا أمر فى منتهى الخطورة والأهمية ، ذلك أن "المشوار" طويل والصراع مستمر يقوده جيل بعد جيل فإن تهاون جيل واتبع هواه وخنع – كسعى أتباع التطبيع فى تغريب شباب اليوم – لنكسرت سلسلة التواصل وصعب ترميمها مرة أخرى. وبعد . إن سعيت للإجابة عن سؤال المقال بحيدة فما ذلك إلا للرد على إدعاءات فريق السلام الوهمى فى حين كان الموقف يقتضى مؤازرة المقاومة ورفع معنويات فريقها بتضخيم انتصاراتها والغض عن خسائرها، على الأقل وفاءً لتضحياتها وتصحيحاً وتعويضاً عن تقاعسنا عن نصرتها. إن الحيدة بين الحق والباطل تعتبر جريمة لا فضيلة ، ولا بأس فى الحروب بالكذب (أليست إحدى ثلاثة مواضع أباح فيها الحديث الشريف الكذب ؟!) طالما كان ذلك يستند لحقائق – مهما صغرت -لا أكاذيب محضة كما تعامل معنا الإعلام الناصرى فى هزيمة 67 حيث كان يتحدث عن قرب دخولنا لتل أبيب فى وقت كانت المعركة قد حسمت بالفعل! واعتذار واجب أسجله معترفاً بخطأ فى عنوان المقال حيث كان من الواجب أن يسند "الفعل" للمقاومة الفلسطينية ولا يحصره فى حماس فقط، ذلك أن فصائل المقاومة الفلسطينية شاركت جميعها فى تحقيق هذا النصر ، وما تخصيصنا " العنوان" لحماس إلا لكونها أكبر فصائل المقاومة والمسئولة عن إدارة المعركة باعتبارها القائمة بالحكم بعد انتخابات حرة نزيهة فعلاً ، فضلاً عن أن سهام فريق المتخاذلين تصوب أساساً ناحية حماس لأسباب لا تخفى عن كل لبيب! إن وقوفنا فى نفس موقع حماس العقائدى لا ينتقص ولا يجب أن يتنقص من تأييدنا لكافة فصائل المقاومة الممثلة لكافة الاتجاهات يساراً أم يميناً طالما اتفقت فى هذه المرحلة على شئ واحد : مقاومة الاحتلال ومحاربة الفساد. عودة للسؤال المطروح لنؤكد أن انتصار المقاومة مؤكد لا جدال فيه طالما اتفقنا على مفهوم النصر فى الثبات أو التقدم خطوة فى طريق تحقيق هدف نهائى وهو ما توضحه وتأكده الآية الكريمة "الا تنصروه فقد نصره الله" . إذ أخرجه الذين كفروا ثانى اثنين" فكيف وصف الله سبحانه وتعالى إخراج رسوله – صلى الله عليه وسلم – من بلدته بالنصر؟! تدبر الآية واسترجع شريط أحداث الهجرة حتى النصر النهائى لتظهر لك الإجابة جلية واضحة: نعم . انتصرت حماس! [email protected]