بدأ الخريف الباريسي يلون أوراق الأشجار استعدادا لسقوطها على الأرصفة المبتلة بمياه المطر، وبدأت أسراب الأطفال تعود الى المدارس، ولكن عناوين الصحف الفرنسية عادت هي الأخرى تنذر بخريف ساخن من الأزمات العالمية، وعاد زملائي الأوروبيون الخبراء في الشؤون الدولية كل في موقعه يحلل أسباب وأبعاد وتداعيات هذه الأزمات المعلنة، كما أن مقتل عشرة جنود فرنسيين على أيدي طالبان منذ أيام أدخلت زملائي الفرنسيين في دوامة الصراع الأفغاني ليصبحوا جزءا منه وفاعلين فيه لأنهم تحولوا الى ضحاياه بسبب قرار الرئيس الفرنسي في مايو الماضي وبعد عام من انتخابه اعادة فرنسا إلى قيادة حلف شمال الأطلسي ثم قراره ارسال 900 عسكري فرنسي اضافي إلى أفغانستان لتعزيز قوات الحلف والتحالف هناك رغم المعارضة الشديدة من قبل شرائح عديدة من السياسيين والرأي العام الفرنسي، حتى من صفوف الحزب الحاكم، مثل رئيس تحرير مجلة (لكسبريس) المؤيدة للرئيس ساركوزي الصحفي كريستوف باربيه الذي وصف مصرع الجنود في هضبة أوزبين الأفغانية بأنه فاجعة وطنية ستسجل كوصمة في الولاية الرئاسية لساركوزي الى الأبد. ولباريس مع حلف الناتو قصة متشعبة طويلة بدأت مع الجنرال شارل ديجول الذي خرج من الحلف في فورة غضب شهيرة في الستينات ولم يعد، بل لم يعد بعده إلى الحلف أحد من خلفائه في قصر الأليزيه بمن فيهم منافسه وخصمه الاشتراكي فرنسوا ميتران. الا أن قدوم نيكولا ساركوزي غير المعادلة بعمق بالنظر إلى ارتباطات الرئيس الجديد بمنظومة المال والأعمال للمحافظين الجدد وعقلهم المدبر في لندن ونيويورك، فهو صديق لأصحاب القرار الخفي في الشركات الاعلامية ودوائر البورصات وشبكات ما يسمى بالانجليزي (ثنك تنك) التي تتكاتف وتتضامن من أجل ابقاء حالة من التأزم الدولي تخدم مصالح تجار السلاح ومالكي المصارف الكبرى في الغرب. ورغم أن الرئيس ساركوزي تصرف بحكمة في معالجة أزمة جورجيا فإن المحللين يعتقدون أنه كان مضطرا الى اتخاذ ذلك الموقف السوي المتوازن بسبب رئاسته للاتحاد الأوروبي حتى يوفى السنة الراهنة. فرئاسة الاتحاد تقتضي مراعاة الحساسيات الوطنية للدول السبع والعشرين الأعضاء أمام الشريك الروسي، فمهما يكن من أمر يبقى اتحاد الجمهوريات الروسية شريكا للاتحاد الأوروبي بعكس العلاقات الأميركية الروسية التي لا تزال تجرجر بقايا التوترات القديمة والجراح العميقة التي لم تندمل بعد. ولكي نعرف من يمهد العالم لحرب شاملة يجب أن ندرك العلاقة الحميمة والمستديمة بين النظام الاقتصادي والنقدي العالمي القديم والعقيم الملقب بنظام بريتن وودس وبين قرع طبول الحرب. فالنظام الدولي الجائر الذي خطط له الحلفاء المنتصرون في الحرب العالمية الثانية لم يراع سوى المصالح الضيقة لبضع عائلات بريطانية وأميركية تسترت بالليبرالية الغربية وحرية التجارة والأسواق المفتوحة لتواصل نهب ثروات العالم في أمان وبكل "شرعية" تحرسها الجيوش الجرارة المنضوية تحت حلف شمال الأطلسي. وهذه العائلات تشكل الحكومة الخفية للغرب وتحولت منذ 11 سبتمبر 2001 إلى قوة هلامية وافتراضية لا تتردد في رفع رايات الصليبية واستعمال منطق صدام الحضارات الذي نظر له هنتنجتون والمحافظون الجدد بزعامة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني. ولسنا نحن الذين نقول هذا الكلام حتى لا يتهمنا بسطاء العرب بالخيال والفكر التآمري، بل قالت هذا الكلام مادلين أولبرايت (التي تنحدر من أصول يهودية وتحملت أخطر المناصب في بلادها) وذلك في كتابها الغني بالمواقف الصادر هذا الأسبوع بعنوان: (الرب وأميركا والعالم). فهي تكتب حرفيا بأن بوش الابن مقتنع بأن لديه رسالة أوحى له بها الرب في العراق وأفغانستان عوضا عن أن تكون لديه سياسة. وهي تؤيد باراك أوباما لأنه سيغير هذا الحال، وتقول عن بوش الابن بأنه غلطة تاريخية ومرض عضال في مسار الحكم في الولاياتالمتحدة. أما المرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية الفرنسية جاك شوميناد فيقول هذا الأسبوع في افتتاحية صحيفته بأن النظام العالمي الفاسد الذي يحكم قبضة حفنة من عائلات الغرب على مصائر الشعوب هو المسؤول اليوم عن دخول الولاياتالمتحدة وأوروبا الى ساحة الصراع على ثلاث جبهات في نفس الوقت: جبهة جورجيا ضد موسكو وجبهة العراق ضد كل العرب وجبهة ايرانوأفغانستان ضد كل المسلمين. ويقترح شوميناد تعويض النظام العالمي الجائر بنظام عادل يقوم على بناء الجسور والطرقات بين الأمم والقارات ودخول العالم مرحلة التعاون الاقتصادي والشراكة الحضارية ما بين الغرب المتقدم والأمم الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل والأمم الفقيرة في افريقيا وأسيا. في كل هذه الشدائد القادمة والقائمة يبقى الأخطر بالنسبة لنا نحن العرب هو غيابنا المدهش عن منطقة الفعل والتأثير كأنما حظنا في السياسات الدولية يشبه حظنا في الألعاب الأولمبية ولعل آخر دعوانا (رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً)، الأية الكريمة النازلة في سورة الكهف ورقمها 10 وهو الدعاء الذي توجه به الفتية الى الله سبحانه وتعالى عندما أووا الى الكهف. أليس حالنا أشبه بهم ونحن أمة كأنما كتب الله عليها أن تأوي الى كهفها. فسبحان الله انه العليم القدير.