بقلم: غسان القديدى أعلنت الحكومة التركية يوم الخميس الماضي أنها تقطع علاقاتها العسكرية مع باريس، في خطوة دبلوماسية مفاجئة لم يتوقعها خبراء الاستراتيجيات في الغرب، ولكني شخصيا وبحكم معرفتي للملف التركي في الاتحاد الأوروبي وفي حلف شمال الأطلسي لم أتعجب من القرار بل اعتبرته حلقة طبيعية في مسار العلاقات التركية الغربية منذ نصف قرن. وليس خافيا أن القشة الفرنسية التي قصمت ظهر البعير التركي هي مصادقة البرلمان الفرنسي منذ شهر على قانون تجريم كل من يشكك فيما يسمى الابادة الأرمنية على يد الأتراك عام 1915 في عهد السلطان العثماني عبد الحميد، واعتبار كل نكران لهذه الابادة جريمة يعاقب عليها القانون، وهو نفس المسار الذي حققه البرلمان الفرنسي بسن قانون (غايسو) عام 1990 الذي يجرم التشكيك في المذابح اليهودية على أيدي النازيين الألمان في الحرب العالمية الثانية.
واني أذكر الرأي العام العربي المتابع لهذا الملف بالجدل الذي ساد حول موضوع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي منذ موافقة الرئيس الفرنسي الجنرال ديجول والمستشار الألماني كونراد أديناور عام 1958 على ادراج طلب تركيا الالتحاق بالاتحاد كعضو كامل الحقوق، الى أن تحولت تركيا إلى قاعدة صلبة وقوية للحلف الأطلسي اعترفت باسرائيل وشاركت في كل المغامرات الأطلسية في العالم تحت الجناح الأمريكي.
ومنذ عشرة أعوام قال الزعيم المؤسس لحزب الرفاه الاسلامي في تركيا نجم الدين أربكان: أنا أفضل ألف مرة أن تكون تركيا الأولى في العالم الاسلامي عن أن تكون الأخيرة في أوروبا! وهذا كلام رجل حكيم تميز برؤية استراتيجية لمنزلة الأمة التركية في محيطها الجغرافي والحضاري، وهو كلام ناجم عن غضب رئيس الوزراء للجمهورية التركية من تخبط الاتحاد الأوروبي في تقرير مصير التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي كعضوة كاملة الحقوق والواجبات.
أما اليوم وفي نوفمبر 2006 بعد عشرة أعوام من هذا التصريح للقائد السياسي الاسلامي، نجد أن خليفته على سدة الحكم ولو بتغيير في اسم الحزب رجب طيب أردوغان يقول تقريبا نفس الكلام لكن بتعبير ألطف بالنسبة للرأي العام الأوروبي والغربي عموما. فرئيس الحكومة التركية القادم من افق ومنابع اسلامية حداثية وعلمانية يراقب التردد المبرمج في تطبيق الاتفاقيات التي تربط بين الاتحاد وتركيا، وهو تردد يسيء الى تركيا وشعبها ومصالحها خاصة والسيد أردوغان يدرك بوعيه الذكي أن المساومات الأوروبية حول عضوية تركيا في الاتحاد تسوق لأسباب انتخابية أو سياسوية داخلية وتوظف لخدمة تيارات عنصرية ويمينية متطرفة جعلت من الشعوب المسلمة بعبعا يخيفون به رأيهم العام في زمن البهتان التاريخي الذي يسود العلاقات الدولية منذ الحادي عشر من سبتمبر ألفين وواحد. يقول السيد أردوغان لمحطة «س ن ن» بأن أوروبا تخسر أكثر مما تخسره تركيا لو وقع التراجع عن تنفيذ مسار العضوية كما تنص عليه الاتفاقيات الموقعة منذ ثلاثين سنة.
وحين نبحث عن المنتفعين من اقصاء تركيا عن أوروبا لا نجد شعب أرمينيا من بينهم، لأن الأرمن يدركون وزن تركيا في العالم وفي أوروبا تحديدا بل ويطمحون الى أن يكونوا في الغد القريب جيران الأتراك في اتحاد أوروبي يضم ثلاثين دولة. وليس أعداء تركيا كذلك اليونانيون الذين سبقوهم الى الاتحاد، لأن اليونان من صالحها حل الأزمة القبرصية في أقرب أجل مع تركيا، ثم ان ما يربط بين تركيا واليونان ليس العداء المستحكم، بل العلاقات التاريخية والثقافية والجغرافية والاقتصادية التي في النهاية تتغلب على العراقيل. انما أعداء تركيا كما قال يوم السبت المحلل السياسي الفرنسي الأمريكي ألكسندر أدلر هم المتشددون اليمينيون من تيارات الأصولية المسيحية والعنصريون الذين يعادون الاسلام ويناصبون تركيا الحقد لأنها فقط مسلمة. والاخرون أصحاب الشركات العابرة للقارات في الغرب الذين لا يغفرون لتركيا حيويتها الاقتصادية في الجمهوريات التي كانت في السابق ملحقة بالاتحاد السوفييتي، وبعضها مرتبط بالحضارة التركية بشكل أو بآخر (مثل مشروع مد أنابيب النفط من القوقاز الى بحر قزوين وصولا الى ميناء اسطمبول).
اننا نعتبر قطع العلاقات العسكرية مع فرنسا الذي قررته أنقرة بمثابة الرسالة الموجهة لا الى فرنسا ولا الى الاتحاد الأوروبي بل الى حلف شمال الأطلسي، لأن الحلف سوف يفقد بفقدان تركيا كل الجسور التي تربطه بالمشرق وبالقارة الاسيوية وبجمهوريات روسيا، وسيتقلص دوره الى مجرد اسمه الأصلي أي حلف يجمع بين الولاياتالمتحدة وأوروبا الغربية لا أكثر.