استقل لبنان عام 1943 رغم عدم توحد جميع الأقليات اللبنانية بسبب استمرار تأثير السياسة الفرنسية في البلاد. واضطر اللبنانيون الي تأسيس حكومة توافق حسب اتفاقية الميثاق الوطني، التي جاءت، حسب الادعاءات، لتضمن توزيع القوي والمؤسسات السياسية علي الأقليات اللبنانية كلٍ حسب نسبته السكانية. ولكن الهدف الرئيسي غير المعلن لهذه الوثيقة جاء ليزرع بذور الفتنة بين الأقليات اللبنانية من أجل تفرقتهم وإضعافهم والمحافظة علي التأثيرات السياسية الخارجية علي البلاد. وينص الميثاق الوطني علي أن يحافظ المارونيون المسيحيون علي رئاسة الدولة، والسنة علي رئاسة الوزراء، والشيعة علي رئاسة المجلس الوطني، ومسيحيو الروم الأرثوذكس علي منصب نائب رئيس البرلمان، بينما تكون نسبة أعضاء البرلمان 5:6 لمصلحة المسيحيين مقابل المسلمين. تجاهلت وثيقة الوفاق الوطنية، أو الأحري قُصد منها ذلك، أي تغيير ديمغرافي بين هذه الأقليات، حيث فاق المسلمون المسيحيين عدداً في السنوات الأخيرة. وكذلك فإن الأقلية المسيطرة علي القوي السياسية، المسيحيون في هذه الحالة، كان لديها المجال لتقوية نفوذها ولإضعاف الأقليات الأخري. فجاء سوء استعمال هذا النفوذ سبباً لتذمر المسلمين مما أدي الي تعديل نسبة أعضاء البرلمان الي 50:50 حسب اتفاق الطائف عام 1990. ترعرع لبنان وازدهر وأصبح يُعرف بباريس الشرق الأوسط. ولكن ذلك لم يدم طويلاً، فبعد تأسيس دولة إسرائيل عام 1948 وطرد الفلسطينيين من بلادهم توجه حوالي 100 ألف لاجئ منهم الي لبنان. وفي عام 1967 خلق الاحتلال الإسرائيلي لكل فلسطين موجةً ثانية من اللاجئين الفلسطينيين اتجه عددٌ كبيرٌ منهم الي الأردن والي لبنان. شعرت إسرائيل بجبروتها فحاولت عبور نهر الأردن لاحتلال المزيد من الأراضي ولكن الجيش الأردني، بالتعاون مع محاربي منظمة التحرير الفلسطينية، هزم القوات الإسرائيلية في معركة الكرامة عام 1968. فلجأت إسرائيل، بالتعاون مع وكالة المخابرات الامريكية المركزية (CIA)، الي إثارة نزاعات سياسية بين ملك الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية من أجل تمزيق الوحدة الأردنية الفلسطينية. واتضح وجود مؤامرة حين قام الجيش الأردني، مزوداً بسلاح الأوزي الإسرائيلي، بالإغارة علي معسكرات منظمة التحرير وطرد أفرادها من الأردن في ما عُرف بأيلول الأسود عام 1970. لجأت منظمة التحرير الفلسطينية الي لبنان محصنةً قواعدها من أجل تفادي مصيرٍ مشابه لأيلول الأسود، واستمرت في نضالها ضد العدو الإسرائيلي. وللمرة الثانية لجأت إسرائيل الي عملية إثارة فتنةً بين المنظمة واللبنانيين حيث كان حزب الكتائب وجيش جنوب لبنان أدواتٍ إسرائيلية لإثارة الحروب الداخلية في لبنان. وبعد أن دمرت الحرب الأهلية معظم لبنان قررت جامعة الدول العربية عام 1976 إرسال قوات ردعٍ تحت القيادة السورية لفصل القوي اللبنانية المتنازعة. ولكن قوات الدول العربية الأخري صغيرة العدد سرعان ما تراجعت تاركة القوات السورية تقوم بهذا العمل وحدها. قامت إسرائيل بدورها بعمليات توغلٍ عديدةٍ في لبنان الي أن وصلت عام 1982 الي ضواحي بيروتالجنوبية. وتدخلت قوي السلام الدولية لتنهي الحرب ولتعطي المجال لمنظمة التحرير للانسحاب من لبنان والتوجه الي تونس. ولكن إسرائيل لم تنسحب من لبنان فكان عليها مواجهة المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله التي اضطرتها الي الانسحاب عام 2000. فأصبح حزب الله عدو إسرائيل الأول واللدود خاصة بعد أن تبنت المقاومة الفلسطينية الداخلية أساليب حزب الله في المقاومة. عاد رفيق الحريري، الملياردير العصامي وعملاق الأعمال، من السعودية الي بلده لبنان حيث استثمر ثروته وقروضاً من البنك الدولي لإعادة إعمار بيروت وجعلها مركزاً مصرفياً عالمياً. وقد استلم رفيق الحريري منصب رئيس الوزراء ما بين 1992 الي 1998، ومرة ثانية ما بين 2000 الي 2004 حين قدم استقالته. وقد تعاون الحريري في عمله مع الحكومة السورية، كما أنه رفض تسليم بعض أعضاء حزب الله الي امريكا التي اتهمتهم بالإرهاب، إذ أن الإدارة الأمريكية، الحامية لمصالح إسرائيل، اعتبرت حزب الله منظمة إرهابية بسبب مقاومتها للإحتلال الإسرائيلي في مزارع شبعا. وفي مقابلةٍ له مع ال BBC عام 2001 صرح الحريري أن حزب الله يحمي لبنان من العدوان الإسرائيلي. كما دعا المجتمع الدولي الي تطبيق جميع قرارات الأممالمتحدة ضد إسرائيل. وبحسب سياسة بوش القائلة إما أن تكون معنا أو مع الإرهاب فقد أُعتبر الحريري عقبةً في وجه التوسع الأمريكي الإسرائيلي الإستعماري قد يحتذي به بعض زعماء الدول العربية. وعقبة مثل الحريري كان يجب أن تُزال بقوةٍ وبعنفٍ لإرسال رسالة تخويفٍ الي غيره. ولذلك تم استعمال آلات بث إلكترونية لتعطيل أجهزة الإنذار في سيارته، واستعمال متفجرات بقوة 1000 كغم من مادة الTNT المتفجرة لتفجير سيارته المصفحة ولاغتياله. ورغم عدم وجود أي دلائل علي الإطلاق تم اتهام سورية بعملية الاغتيال وتم الضغط عليها الي أن سحبت جميع قواتها من لبنان. بعد احتلال العراق لم يبق إلا إيران وسورية وحزب الله اللبناني وحماس الفلسطينية لتشكيل أي خطر علي إسرائيل. أصدرت إدارة بوش تعليماتها لإسرائيل باختراق الجنوب اللبناني للقضاء علي حزب الله بعد إرسال كتيبةٍ إسرائيليةٍ صغيرةٍ داخل الحدود اللبنانية في تحريضٍ سافرٍ لحزب الله، فما كان من حزب الله إلا أن اتخذ جنديين إسرائيليين أسري. فادعت إسرائيل أن دفاع حزب الله هذا عن الحدود اللبنانية كان اعتداء عليها واتخذته ذريعةً لشن حربٍ علي لبنان في تموز (يوليو) 2006. ولكن رغم استخدام إسرائيل قنابل محرمة دولياً مثل القنابل العنقودية وأخري مشبعة باليورانيوم الحي، ورغم الضغط الأمريكي لاستمرار العدوان الإسرائيلي مدة أطول ومد جسرٍ تسليحٍ جويٍ الي إسرائيل، ورغم اتهامات مصر والسعودية لحزب الله وعدم اشتراك الجيش اللبناني في الدفاع عن لبنان، لم تستطع إسرائيل القضاء علي حزب الله حسب المخطط. بعد أن انتصر حزب الله علي الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وهذا عمل بطولي لم تستطع الجيوش العربية جمعاء أن تقوم به، طالب الحزب بدورٍ أكبر له في الحكومة. ولكن هذا الانتصار أثار حفيظة إسرائيل والإدارة الأمريكية، كما أثار قلق فرنسا التي طالما حلمت بالعودة الي محميتها لبنان وبلعب دورٍ أكبر في الحرب علي الإرهاب حتي تنتعش صناعاتها العسكرية. ولكن هذا الانتصار أثار قلقاً أكبر لدي الزعماء العرب لأنه أظهر بوضوحٍ ضعف قدرتهم السياسية وولائهم لقوي أجنبية بدلاً لشعوبهم. وتخوف الجميع من أن يصبح حزب الله مثلاً للجماهير العربية فتنهض ضد قياداتها الفاسدة وتهزم إسرائيل وتفشل المخططات الأمريكية في المنطقة. تم استخدام سياسة فرّق تسد ، التي نجحت في شق الفلسطينيين الي حماس وفتح، لإثارة الفتنة بين اللبنانيين ولتمزيقهم الي موالين للحكومة بقيادة حلف 14 آذار (مارس) وزعمائه المدعومين غربياً والرافضين للعلاقات السورية، والي حلف معارضة بقيادة حزب الله. وقد حاولت وسائل الإعلام الغربية إظهار هذه الفتنة علي أنها صراع ديني داخلي بين السنة والشيعة رغم وجود سنة وشيعة ومسيحيين علي كلا الطرفين. واتهموا حزب الله بأنه أداة في أيدي سورية وإيران يهدف الي إعادة النظام السوري الي لبنان ولإعطاء إيران مخرجاً الي شواطئ البحر الأبيض المتوسط. واتهمت الإدارة الأمريكية حزب الله بتدريب أفراد المقاومة العراقية في إيران علي قتل الجنود الأمريكيين. لم تغب هذه الأخطار عن فطنة حزب الله الذي استطاع لمدةٍ طويلة تجنب المواجهات المدنية عن طريق العملية السياسية والحوار مع حكومة السنيورة ومع عمرو موسي الأمين العام لجامعة الدول العربية. لكن عندما دُفعت حكومة السنيورة لتفكيك شبكة الاتصالات السلكية لقيادة حزب الله، التي كانت موجودة منذ ما قبل 2000 وتم تحديثها حالياً، ولإزالة كل وسائل حزب الله لمراقبة عمليات تهريب الأسلحة عبر المطار الدولي، اعتبر حزب الله هذين القرارين بمثابة إعلان حرب ضده وتهديداً لسلامة كل لبنان لأنهما يخدمان العدو الإسرائيلي فقط. حاولت مليشيا حزب المستقبل التابع لسعد الحريري إشعال نار الفتنة عن طريق رجم الحجارة وإطلاق النار علي المدنيين، ولكن مسلحي حزب الله استطاعوا بسرعة غير متوقعة احتلال قواعد هذه المليشيا واحتجاز كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة والمشروبات الكحولية وقاموا بتسليمها الي الجيش اللبناني. كما قاموا أيضاً بتطويق بيوت سعد الحريري ووليد جنبلاط وبالتعاون مع الجيش اللبناني للسيطرة السريعة علي الأمن في بيروت ومنع كل مظاهر الفتنة. وطالب السيد حسن نصرالله الأمين العام لحزب الله حكومة السنيورة بالتراجع عن قراريها وبالعودة الي طاولة المفاوضات، ولم يكن للحكومة أي مفر من ذلك. أفشلت سرعة تصرف حزب الله المؤامرة وحافظت علي الأمن في لبنان وأعادت الخلافات السياسية الي طاولة المفاوضات. أظهر حزب الله مرة ثالثة أنه الأمين المحافظ علي سلامة لبنان.