القراءة الواعية. المتأملة. لحياة الشيخ مصطفي المراغي. تستطيع أن تلخصها في كلمتين هما: الإصلاح والتجديد. فلم يكن المراغي مجرد شيخ للأزهر. أهلته له مكانته بين كبار العلماء. لكنه كان قيمة دينية وعلمية هائلة. هز الجمود في الأزهر. وأحدث تغييرًا هائلاً في مناهجه. وفي دوره كمنارة للإسلام. تنشر صحيح الدين. وترعي طالبي العلم في الجامعة العريقة. من أنحاء الدنيا. ولد الشيخ محمد مصطفي المراغي في 9 مارس 1881 العام الذي شهد قيام الثورة العرابية في المراغة بمحافظة سوهاج. ينتمي نسبه إلي الحسين بن علي وفاطمة الزهراء بنت النبي صلي الله عليه وسلم. بدأ رحلته العلمية. شأنه شأن غالبية أبناء ذلك العصر بحفظ القرآن الكريم في كُتّاب القرية. ثم التحق بالأزهر الشريف. وتلقي العلم علي أيدي علمائه. وكان الإمام محمد عبده أبرز أساتذته. أفاد من دروسه وتوجيهاته في العقيدة. وفي الإنسانيات المختلفة. وعاش معارك الإمام لتجديد الأحوال في الأزهر. واختار الدرب نفسه الذي سار فيه أستاذه الإمام. بداية من السعي لتحويل الأزهر إلي منارة للعلم والهداية الدينية. وتواصلاً بإصلاح القضاء. والتقريب بين المذاهب الإسلامية. والطوائف الإسلامية عامة. وحرص عقب توليه مشيخة الأزهر أن يعود بفضل تعليمه. وتنشئته. والمسار الذي اختطه لنفسه. إلي محمد عبده. فهو علي حد تعبيره المصباح الذي اهتدي به. حصل علي الترتيب الأول في شهادة العالمية من الأزهر. واختاره الإمام محمد عبده قاضيًا في مدينة دنقلة بالسودان. أقام المراغي في السودان ثلاث سنوات. عاش فيها بين أبناء الجنوب الذين كانوا يشكلون مع أبناء الشمال مملكة وادي النيل. ثم اضطر إلي الاستقالة رفضًا لتدخلات الحاكم العسكري الانجليزي للسودان. وعمل عقب عودته إلي مصر قاضيًا في المحاكم الشرعية. حتي تولي رئاسة المحكمة الشرعية الأولي في 1923. ثم وجد الفرصة لتحقيق طموحاته في الإصلاح والتطوير عندما عين في 1928 شيخًا للأزهر. لكن تبدل الأوضاع في البلاد. والتدخل الاستعماري لمحاولة سلب الاستقلال من محتواه. بعد أن استغلت بريطانيا حادثة مقتل السردار الانجليزي. بمحاولة تفكيك فصل جنوب الوادي عن شماله. والعقبات الكثيرة التي نشأت وبعضها للأسف مسئولية السلطة المصرية الحاكمة. الرافضة لأي طموح بالإصلاح والتجديد ذلك كله دفعه إلي الاستقالة في العام التالي من منصبه. وأزمع التفرغ لقراءاته وبحوثه وكتاباته. ومراجعة تصوراته للتجديد في داخل الأزهر وخارجه. لكنه عاد إلي المشيخة في ابريل 1935. وكانت عودته تلك المرة بضغط المظاهرات التي قام بها طلاب الأزهر. وعلماؤه التي دعت لعودة المراغي إلي مشيخة الأزهر ليحقق دعوته المطالبة بالتغيير. كانت قضية الإصلاح والتجديد في تقدير الشيخ المراغي تتوزع في اتجاهين. أولهما هو القضاء. كان رأي الشيخ أن القاضي يستمد أحكامه وقدراته من القرآن والسنة. فلا سلطان لأحد عليه سوي الله. ثم ضميره. بحيث يؤدي رسالته السامية دون خشية من سلطة تناوئه. أو ظلم لضعيف وجد فيه الملاذ. وإذا كان الخلفاء العظام قد أحسنوا القضاء بالاعتماد علي آيات القرآن. وتعاليم السنة. فإن اجتهادات الفقهاء تيسر الإحاطة بالقضايا التي يناقشها القاضي. وما يرافقها من أمثلة تحقق بها العدل. إصلاح القانون هو الخطوة الضرورية لإصلاح القضاء. لذلك فقد عمد الشيخ إلي تشكيل لجنة برئاسته. مهمتها إعداد قانون الأحوال الشخصية. وطالب أعضاء اللجنة بعدم التقيد بمذهب معين. وكان المذهب في تلك الفترة هو الحنفي. وضرورة الأخذ بما يتسق مع مصلحة الأفراد والجماعة: "ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان. فالشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة. ما يجعلنا نجد في تفريعاتها وأحكامها في القضايا المدنية والجنائية كل ما يفيدنا وينفعنا في كل وقت". وتطبيقًا لدعوته. فقد اتبع الشيخ أسلوبًا جديدًا. لم يكن قائمًا آنذاك وثمة دعوة في أيامنا الحالية للعمل به وهو محاولة التوفيق بين المتقاضين قبل أن يصل القاضي إلي قناعة تملي الحكم الذي يصدره. أما الاتجاه الثاني فهو الأزهر. وكان لتطوير أوضاعه أولوية مهمة في فكر الشيخ المراغي. وقد شكل الشيخ غداة توليه المشيخة لجانًا لإعادة النظر في قوانين الأزهر. ومناهجه الدراسية. كما قدم إلي الملك فؤاد مشروع قانون لإصلاح الأزهر وكان الملك مشرفًا علي شئون الأزهر ولأنه لم يكن علي فهم حقيقي لأمور البلاد. بعد أن ولي حكمها بأسلوب أقرب إلي أفلام المغامرات. فقد رفض مشروع القانون بإيعاز من موظفيه الذين زكوا معارضتهم للمشروع بأنه يريد استقلال الأزهر عن القصر. وأعاد الملك مشروع القانون إلي المراغي. لكن الشيخ أرسل إلي الملك مشروع القانون في ظرف. وأرسل كذلك ظرفًا ثانيًا بداخله استقالته من المشيخة. وقبل الملك الاستقالة. فخرج طلبة الأزهر وعلماؤه في مظاهرات واضرابات استمرت ما يزيد علي العام. حتي رضخ فؤاد لإرادة الأزهريين. وأعاد مصطفي المراغي إلي المشيخة. أنشأ المراغي ثلاث كليات للغة العربية. وعلوم الشريعة. وعلوم أصول الدين. كما شكل لجنة للفتوي داخل الأزهر. تعني بالرد علي الأسئلة المتصلة بالدين. كما كون جماعة كبار العلماء من ثلاثين عضوًا. لهم مكانتهم المتميزة. وعلمهم الوافر. ودعا إلي دراسة الأديان دراسة مقارنة. ودراسة اللغات الأجنبية. ليسهل نشر تعاليم الإسلام والثقافة الإسلامية بين الأجانب. كذلك دعا إلي التقريب بين المذاهب الإسلامية. والتقريب بين طوائف المسلمين بقطع النظر عن مذاهبهم وفرقهم. وكما يقول د. محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر السابق. فقد كانت حياة الإمام المراغي قصيرة. لكنها كانت طويلة وكبيرة بالنسبة للأعمال التي خدم بها الأزهر. متمثلة في القوانين وتطوير المناهج. وتحريرها من التقليد والتلقين في التدريس. والتوسع في الاجتهاد. والأخذ بالأساليب الحديثة. وإنشاء الكليات الثلاث الجديدة: اللغة العربية. الشريعة والقانون. وأصول الدين. إضافة إلي الكثير من المؤلفات التي تشمل تفسير القرآن الكريم. وقضايا الفقه واللغة. لم تقتصر اهتمامات الشيخ المراغي علي القضاء والأزهر. فقد شارك بفعالية في الكثير من مجالات الإصلاح. استهدافًا لتبديل حياة المصريين من جمود واستكانة بتأثير قرون الحكم العثماني. ثم بالاحتلال الانجليزي للبلاد. الذي وعي الشيخ علي وجوده في حياتنا. ومما يحسب للشيخ المراغي موقفه من اشتراك الحكومة المصرية في الحرب العالمية الثانية. فقد رفض فكرة اشتراك مصر في الحرب بالتحالف مع الانجليز. أو التعاون معهم. وجد فيها حربًا لا ناقة لنا فيها ولا جمل. لأن المعسكرين المتحاربين لا يمتان لمصر بأية صلة. ومما يحسب له كذلك قيادته حملة جمع تبرعات بين المصريين لصالح مجاهدي السودان ضد سلطة الاحتلال الانجليزي. وحين طالبه الملك فاروق بفتوي تحرم زواج الملكة فريدة من آخر بعد طلاقها منه. قال الشيخ: أما الطلاق فلا أرضاه. وأما التحريم بالزواج فلا أملكه. أنا لا أستطيع أن أحرم ما أحله الله! ولعل أخطر ما دعا اليه الشيخ المراغي في قضايا التجديد الديني. تنقية العقائد الإسلامية من ترف المتكلمين القدامي. وفتح باب الاجتهاد في حياة الناس اليومية. وعمد التقيد بآراء الفقهاء كتعبير وحيد عن صحيح الدين. لكنها مجرد اجتهادات فقهية تحتمل الصواب والخطأ. وتدين بالفترة التي صدرت فيها. أما التقيد بآراء فرد. مهما بلغت مكانته العلمية. والانتصار لها علي كل الآراء. فهو ما يفاقم مشكلة الجمود الذي ران علي الأمة الإسلامية في توالي السنين. ومن مأثور كلماته: إن الدين في كتاب الله غير الفقه. وإن من الإسراف في التعبير أن يقال عن الأحكام التي استنبطها الفقهاء. وفرعوا عليها. واختلفوا فيها. وتمسكوا بها حينًا. ورجعوا عنها. إنها أحكام الدين. توفي الشيخ محمد مصطفي المراغي في ليلة الرابع عشر من رمضان 1364. الموافق الثاني والعشرين من أغسطس .1945