شكل الامام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى شيخ الأزهر حالة فريدة من نوعها فى الشموخ والاعتزاز بالرأى وبقدر وقيمة وقامة العلماء ورجال الدين تصدى بكل حزم لكل محاولات الهدم والتهميش والتجميد للأزهر ورجاله،لم يهب يوما من الأيام حاكما أو سلطانا وكانت عقيدته الراسخة فى عقله ووجدانه ألا لا كلمة تعلو فوق كلمة رجل الدين ، فلم يسع فى يوم من الأيام إلى منصب أو جاه فقد كان همة الأكبر العلم وتطوير الأزهر وتنقية مناهجه وإخراجه من حالة الركود والتجميد التى حدثت له فى وقت كان الملك كل طموحاته تحويل الدولة إلى دولة مدنية لا مكان فيها للدين فقاد ثورة التجديد فقدم للملك فؤاد مشروعا لتطوير الأزهر وافتتاح كليات وأقسام جديدة تواكب متطلبات العصر، فقوبل مشروعه بالرفض من الملك فتقدم باستقالته وعاد بعد خمس سنوات محمولا على أعناق آلاف من الطلاب وعلماء الأزهر، لم يقتصر دوره على الأزهر بل كان سابق عصره فى قضايا يحسب له انه وضع لها قواعد وأصولا فقهية فهو أول من وضع « قانون الأحوال الشخصية» وقضية «الوصية الواجبة» وغيرها من القضايا التى تهم الأسرة المصرية ،كما فتح باب الاجتهاد ودعا إلى توحيد المذاهب ، أوصى بوجوب أن يترفق الفقهاء بالناس فى الأمور الشرعية الكبيرة كما حاول التقريب بين المذاهب الطائفية وتأكيد روابط بين المسلمين والعالم ، كما كان له الفضل فى تشكيل مجموعه من اللجان ومنها لجنه الفتوى والوعظ والإرشاد وجماعه كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية كان هدف الأمام المراغى أن يخرج الأزهر الشريف من النطاق المحلى إلى النطاق العالمى . التقيت منذ أكثر من عشر سنوات بالابن الوسط للإمام المراغى السيد حسن رشاد المراغى الذى توفاة الله منذ ثلاث سنوات كما التقيت مع عدد من أفراد عائلته فى مسقط رأسه فى مدينة المراغة شاهدت عن قرب المكان الذى مازال يحتفظ بكل تفاصيل الماضى والذى تربى وعاش فيه الأمام الأكبر الشيخ المراغى فمازالت الأسرة تحتفظ بكل تفاصيله عن حب واقتناع وفخر بقيمة وقامة هذا العالم الجليل وليس تحيزا منى لأنى انتمى لمحافظة سوهاج المحافظة التى تخرج فيها ألاف العلماء ورجال الدين والسياسة فكانت لعائلة المراغى الحظ الأكبر من العلماء ورجال الدين ورجال السياسة حتى أصبح لقب المراغى علامة مسجلة للعلم والعلماء المنتشرين فى مصر وفى دول العالم . وفى القاهرة التقيت باللواء أحمد رجائى حسن المراغى مساعد وزير الداخلية الأسبق وحفيد الأمام أحمد المراغى الأخ الأكبر للأمام شيخ الازهر، كان يشغل منصب عميد كلية دار العلوم ، فقد بذل اللواء رجائى جهدا كبيرا فى توثيق وتأريخ نسب عائلة المراغى فى مجلدات فخمة ولوحات فنية نقشت عليها شجرة العائلة التى تنتمى لنسل الرسول عليه الصلاة والسلام إيمانا منه بعظمة ودور علماء عائلة المراغى ويأتى فى مقدمتهم الامام الأكبر. يقول عكفت على جمع وتوثيق شجرة العائلة حتى تكون وثيقة لكل الأبناء والأحفاد ولتكون شاهدة على تاريخ ونبوغ الأجداد . نشأة الأمام ولد الامام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغى بمدينة المراغة بجرجا محافظة سوهاج فى 9 مارس 1881 التحق الامام بالأزهر ونبغ من بين تلاميذ الشيخ محمد عبده وقد حمل من بعدة راية الإصلاح والتجديد فى الأزهر منذ حصوله على درجه العالمية المعادلة لدرجة الدكتوراه التى تمنحها الجامعات المصرية والعالمية , وقد حصل عليها وهى فى سن الرابعة والعشرين من عمرة وهى سن مبكرة بالنسبة لعلماء الأزهر بالمقارنة لمن حصل عليها من اقرأنه على مر العصور فكان خليفة الإمام محمد عبده الذى تنبأ له فى حياته بهذا المستقبل لما لمسة فيه من نبوغ منذ أن كان دارسا بالأزهر .لذلك رشحه الشيخ محمد عبده ليعمل قاضيا بالسودان فى مدينة دنقلة ومنها لمدرية مدينة الخرطوم حتى عام 1907 قرر المراغى الاستقالة والعودة إلى مصر بعد أن اختلف مع قاضى قضاة حول طريقة اختيار المفتشين بالمحاكم الشرعية فى السودان كما اعترض على الراتب الهزيل الذى كان يخصص للقاضى الشرعى المصرى أربعه عشر جنيها مقارنة براتب القاضى الانجليزى خمسون جنيها ويعود المراغى إلى مصر لكنه لم يبقى طويلا بعد أن يأتيه سلاطين باشا وكيل حكومة السودان يطلب منه تولى منصب قاضى قضاة بالسودان فيوافق المراغى على أن يصدر قرار تعيينه من خديوى مصر بوصفه حاكما مصرى مسلم فكان له ما أراد . المراغى إماما للأزهر مرتين . فى عام 1928 أصدر الملك فؤاد ملك مصر والسودان مرسوما بتعيين الشيخ المراغى شيخا للأزهر وكان عمره 48 عاما وفى أكتوبر 1929 تقدم الإمام الأكبر باستقالته حين رفض الملك خطة الإصلاح التى قدمها للملك ورفض أن يستمر فى موقعه ولما استقال الإمام لم يخلد إلى الراحة والسكون بل استمر لعدة سنوات عاكفا فى بيته على البحث والدراسة ومراجعه آراء المصلحين من قبله وخاصة أستاذه الإمام محمد عبده وفى عام 1935 أصدر الملك فؤاد مرسوما بعودة الإمام الأكبر شيخا للأزهر فكان للإمام ما أراد ونفذ خطة إصلاح الأزهر التى كان لها بالغ الأثر فيما وصل إليه الأزهر الشريف الآن وستمر شيخا للأزهر حتى وفاته عام 1945. المراغى لا يحرم ما أحل الله ومن المواقف الشهيرة التى حدثت بين الملك وشيخ المراغى يقول اللواء أحمد رجائى : حين طلب منه الملك إصدار فتوى تحرم زواج الملكة فريدة بعد طلاقها من الملك فاروق وكان رد الأمام على الملك فاروق فى ذلك الوقت قولة « أما الطلاق فلا أرضاه ، أما التحريم فلا أملكه ، ولا يمكن للمراغى أن يحرم ما أحل الله « حيث كان هذا الأمر مقصورا على زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يجوز أن يطبق على أحد غيرهن وقد أغضب هذا الرفض الملك فاروق. إصلاحات تشريعية قام الأمام بعدة إصلاحات تشريعية مهمة منها عدم التقيد بمذهب معين إذا وجد فى غيرة ما يناسب المصلحة العامة للمجتمع وكان القضاة قبلها مقيدين بمذهب معين وطلب أعضاء لجنة القضاة أن يضعوا من المواد ما يوافق الزمان والمكان، مؤكدا أن الشريعة الإسلامية فيها من السماحة والتوسعة ما يجعلنا نجد فى أحكامها ما يفيد وما ينفع فى كل وقت وحين ونادى بفتح باب الاجتهاد بتوحيد المذاهب بقدر الإمكان . وبهذا استطاع أن يقوم بإصلاحات عديدة فى محيط الأسرة الإسلامية وعمل على صدور قانون الأحوال الشخصية فى يوليو 1920. من المواضيع المهمة التى وضع لها حلولا شرعية لحماية حقوق الأبناء و منها حق الأبناء الذين توفى والدهم فى حياة جدهم أن يكون لهم نصيب من الميراث فى حدود الوصية التى شرعها المولى عز وجل وهو ما يسمى «بالوصية الواجبة» كذلك الأحكام الشرعية حول المدة التى تلتزم المرأة يفقد زوجها مع مظنة الهلاك كما فى حالات الغزوات والحروب والأخطار التى تحيط بفقدان الزوج حيث كانت الأحكام الشرعية المعمول بها قبل هذا التعديل التشريعى تقضى بعدم زواج المرأة التى تفقد زوجها لسنوات طويلة يترتب عليها الكثير من المآسى والأضرار الاجتماعية والإنسانية . كما كان للإمام الأكبر رحمه الله مقولات مشهورة فى شئون الدين والدولة منها ما صرح به ممن على منبر خطبة الجمعة حين قال « هذه حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل « معترضا على ما طلبته بريطانيا من الحكومة المصرية بأن تعلن الحرب على دول المحور ألمانيا وايطاليا وقت اندلاع الحرب العالمية وقد طلب الإمام الأكبر من الملك ومن الحكومة أن يعلن القاهرة مدينة مقدسة تضم رفات العديد من أل البيت وأن لا تغير على أحد ولا يغار عليها من أحد اتقاء لشرور وويلات الحروب . كما كان للإمام موقف مع الملك جورج الخامس ملك بريطانيا العظمى حينما كان فى طريقة إلى الهند لتتوجه إمبراطور للهند ورست باخرته بميناء سواكن بالسودان وقت أن كان الشيخ المراغى قاضيا بالسودان وكان يشغل منصب قاضى القضاة وقد كان يمثل اعلى شخصية إسلامية بها وكانت المراسم البريطانية تقضى بأن يقف الشيخ المراغى مع زعماء طائفتى المهدية والميرغنى زعماء السودان على رصيف الميناء وأن يصعد الحاكم الانجليزى وقائد الحامية البريطانية إلى الباخرة لتحية الملك ولما رفض الامام ذلك اضطرت الخارجية البريطانية إلى تعديل هذه المراسم وقررت أن يكون الشيخ المراغى على رأس مستقبلى الملك على ظهر الباخرة أسوه بالحاكم البريطانى ، وحين صعد إلى الباخرة طلب منه أن ينحنى وهو يسلم على ملك بريطانيا فرفض الامام وقال « المسلم لا ينحنى إلا لله سبحانه وتعالى « فلما سأل الملك عن سبب عدم دخول الشيخ لتحيته وعرف السبب طلب استقباله دون أن يضطر للانحناء عند تحيته كما سبق وطلب منه ، وقدم له الملك هدية ساعة جيب مرصعه بالأحجار الكريمة . عدالة الامام ومما يذكر عن عدالة الإمام انه حين كان رئيسا للمحكمة الشرعية العليا وكان قادما من حلوان مقر إقامة مستقلا قطار حلوان ونزل فى محطة باب اللوق ليتوجه إلى المحكمة وكان سيصدر حكما فى قضية عرفت وقتها بقضية « هنرى السكاكيني» فوجئ عند خروجه من محطة باب اللوق بمن يعترض طريقه ويلقى عليه ماء النار أصابته بحروق شديدة بالرقبة ولكنة تحامل على نفسه قبل أن يتوجه للمستشفى للعلاج أصر على ان يتوجه للمحكمة ليصدر الحكم فى تلك القضية ورغم ما لحق به من أذى من جانب أتباع سكاكينى إلا انه لم يترك لما أصابه من اعتداء أن يؤثر على حكمه فى القضية بأن تجعله يحكم ضده ، وأصدر حكمه بالبراءة . وقد حكى لى حسن رشاد المراغى أن هذه الحادثة تركت على رقبة الامام تشوهات سببت له فى حرجا كبيرا لذلك صمم لنفسه جلبابا بلياقة لتخفى أثار الحريق الذى إصابته ليصبح بعدها الزى الرسمى لمشايخ الأزهر . رموز عائلة المراغى . وكان الشيخ أحمد مصطفى المراغى الأخ الأكبر للامام محمد المراغى شيخ الأزهر هو المرجع الفقهى الذى كان يلجأ إليه الامام فى أمور كثيرة فقد كان أستاذا بكلية دار العلوم ورئيس قسم الشر يعه بها على رتبة البكوية عام 1943 له العديد من المؤلفات الهامة وأهمها» تفسير المراغى « الذى انتشر بشكل كبير وتتم دراسته بالجامعات والمعاهد الدينية العليا بدول شرق أسيا ومنها ماليزيا واندونيسيا وغيرهما ويأتى العديد من الباحثين بالدراسات العليا من هذه الدول ومن مصر أيضا بزيارة منزل الأسرة بحلوان لتحقيق سيرته الذاتية ومنهجه فى تفسير القرآن الكريم وقد توفى الشيخ احمد المراغى فى 1952 ، وقد اتبعه الامام محمد متولى الشعراوى و تتلمذ على يده فى كلية دار العلوم واتبع منهجه فى التفسير له العديد من المؤلفات فى أصول البلاغة والنحو الصرف بجانب كونه أستاذا للفقه والشريعة مما مكنه من اكتشاف مكنون الإعجاز اللغوى فى القرآن الكريم. كان الشيخ المراغى يعتبر أولاده هم ثروته الحقيقية فكان لديه سبعه أولاد وخمس بنات هذا ما ذكره لى المرحوم حسن رشاد المراغى كان عضوا فى مجلس النواب قبل وفاته بفترة طويلة تولى الابن الأكبر أحمد مرتضى المراغى منصب وزير الداخلية ، عبد الرحمن محاسب قانونى وعضو مجلس نواب ، السفير إسماعيل صادق المراغى وكيل وزارة ومدير إقليمى بمنطقه العمل الدولية ، المستشار عبد اللطيف المراغى نائب رئيس محكمة النقض سابقا ، المهندس أبو بكر المراغى مدير بهيئة المواصلات السلكية واللاسلكية ، السفير شريف المراغى بوزارة الخارجية ،وبناته عزة و نعمة و هند و تحيات و إقبال . كما شغل المستشار مدحت المراغى ابن مصطفى الأخ الأصغر للأمام المراغى العديد من المناصب فى السلك القضائى فى مصر وفى دولة عمان حيث عمل مستشارا قانونيا لمجلس وزراء سلطنة عمان وبعد عودته شغل منصب وكيل وزارة العدل ثم أمينا عاما لمجلس القضاء الأعلى ثم رئيسا لمحكمة النقض ورئيسا لمجلس القضاء الأعلى كما ينسب له الفضل فى تنقيح وتحديث الموسوعة الفقهية القانونية الشهيرة « موسوعة السنهورى « فى القانون المدنى وهى أكبر وأضخم الموسوعات القانونية وصدرت عدة طبعات . الخطبة الأخيرة رفض المراغى الحفيد ما يردده البعض ان الملك فاروق هو من قتل الامام المراغى حين زاره فى المستشفى حين رفض طلبه قائلا: كانت علاقة الملك بالامام علاقة احترام وتقدير لقيمة وقامة رجل الأزهر . كثيرا ما استمع الملك فاروق إلى رأيه وكان يحضر مجالسه العلمية وينصره على بعض الأحزاب المناوئة له . لكن مما حدث ونشر وقتها حين مرض الشيخ ودخل مستشفى المواساة بالإسكندرية وتبين له أثناء وجوده بالمستشفى أن الممرضات اللاتى يعملن بالمستشفى يذهبن مساء إلى السراى الملكية للمشاركة فى سهرات وحفلات واستاء الإمام الأكبر وطلب من الدكتور النقيب مدير المستشفى أن يبلغ الملك حين يلقاه بأن المراغى لا يرضى أن يقابل وجه الله وهو إمام لك « وكتب استقالته وأرسلها للملك فاروق الذى منع نشرها وحفظها فى طى الكتمان ألى أن توفى الشيخ ولقى ربه فى ليلة الأربعاء من شهر رمضان سنه 1945 . مات الشيخ المراغى وفى يده قصاصات لتفسير القرآن، وقد أقيمت عليه صلاه الغائب فى المساجد الكبرى بشتى عواصم العالم الإسلامى تمر اليوم الذكرى 72 لوفاته.