قلمه ليس ككل الأقلام.. كلماته وسطوره ليست ككل الكلمات والسطور.. هو كاتب متفرد بكل معني الكلمة.. له مذاق خاص.. أحب الناس فيه بساطته وصدقه وأسلوبه السهل الممتنع.. لذلك كان قراره المفاجئ باعتزال الكتابة صدمة حقيقية لكل من ارتبط بعموده الأسبوعي في "الجمهورية" كل خميس. في صحفنا أعمدة كثيرة وسطور كثيرة.. مختلفة الألوان والتوجهات.. سطور زاعقة وسطور مائعة.. سطور راقصة ومنافقة ومخادعة وسطور عاقلة حكيمة صادقة واعية.. ومن بين هذه الأنواع المختلفة تميزت سطور كاتبنا الكبير الأستاذ محمد العزبي بالعقلانية والصدق مع النفس ومع الآخرين.. والتواضع أمام القارئ.. سطور هادئة رشيقة رقراقة.. حتي وهي تعبر عن الرفض والغضب. حين غاب عموده الأسبوعي عن "الجمهورية" سارعت إلي الاتصال به لأطمئن عليه فأبلغني بقرار اعتزال الكتابة.. مؤكدا أنه قرار نهائي.. حاولت بالطبع أن أحمله علي التراجع وإعادة التفكير في الأمر مثلما حاول كثيرون غيري.. لكن الواضح أنه كان قد حزم قراره.. وبرره بأسباب صحية.. ولأنني أعرف مدي حساسيته وعفته قلت اعتبر نفسك في إجازة لمدة أسبوعين مثلا للراحة وإتاحة الفرصة لحل أية مشكلة معلقة تعوق استئناف الكتابة.. فأكد أنه لا مشكلة إطلاقا تمنعه.. وعلاقته بقيادات مؤسستنا حاليا في أفضل حالاتها.. ولذلك فإنه يري أن هذا هو أنسب وقت لاتخاذ قرار الاعتزال بكامل إرادته.. وبعيدا عن أية ضغوط. شخصيا.. مازلت غير قادر علي تفهم كيف يحتمل الكاتب المطبوع اعتزال الكتابة.. وأمامنا تجربة هيكل الله يرحمه الذي أراد السادات أن يعزله عن الكتابة فانتصرت إرادته وصار أكثر انتشارا بعد أن ترك رئاسة تحرير الأهرام.. وحتي عندما أعلن هو قرار الاعتزال فيما عرف ب "الاستئذان في الانصراف" لم يحتمل هذا الانصراف طويلا وعاد أنشط مما كان.. وتبين أن قرار الاعتزال كان رسالة سياسية أو "استثمارية" ليس أكثر. لذلك.. مازال عندي أمل في أن تثمر حملة الضغوط علي الأستاذ العزبي لكي يعود إلي قرائه.. أعرف أنه ليس رجل المناورات.. وليست له أهداف في أن يبعث برسائل إلي أحد.. وأنه صادق فعلا في قرار الاعتزال.. لكنني مع حق الكاتب بل واجبه في أن يكتب ويؤدي رسالته إلي آخر يوم في حياته. في 11 مارس الجاري أجرت معه صحيفة "الشروق" حوارا ممتعا قال فيه: "أنظر إلي تجربتي بحب.. وأزعم أنني لم أسئ لأحد ولم أكذب كثيرا.. وعبرت عن نفسي بشكل مطلق في كل العهود.. ونادرا ما وجهت التحية لرئيس أو وزير.. ولم أدق الطبول أبدا.. منحتني الكتابة الصحفية الحياة.. عشت راضيا وواثقا من نفسي بغض النظر عن شهرتي من عدمها أو نشر صورتي من عدمه أو حصولي علي مناصب ومزايا.. كنت سعيدا بتجربتي.. علمتني ولم تأخذ مني". وحين سئل لماذا لا تكتب أوضح أنه من الأفضل للصحفي أن يسأل الناس عنه لماذا لا يكتب بدلا من أن يسألوا لماذا يكتب.. مضيفا أن الأسباب الصحية هي الدافع الرئيسي و"حسمت القرار مع تاريخ ميلادي في 20 فبراير الماضي". ثم يعطي بعدا آخر لقرار الاعتزال فيقول إنه أجري حصرا سريعا للمقالات المنشورة في يوم واحد في بعض صحفنا فوجد الآتي: في الجمهورية 34 مقالا والأخبار 31 والأهرام 25 والمصري اليوم 22 والمساء .14 نعم.. لقد اختلط الحابل بالنابل.. وبعض الكتَّاب لا يعرفون لماذا يكتبون.. ولكن الرد علي ذلك لا يكون باعتزال الكبار أصحاب الأقلام والمواهب.. من يليق بهم الاعتزال ويستوجب باقون.. ولا يخطر الاعتزال أبدا علي بالهم. وصحافتنا ليست في حاجة إلي كثرة أقلام.. وإنما في حاجة إلي أقلام تكتب الصدق.. وترفع لواء الحق والعدل.. وتنير طريق الحرية.. أقلام تدرك ضرورات الحاضر وطموحات المستقبل.. ولهذا لن نمل ولن نيأس من المطالبة بعودة الأستاذ العزبي إلي الكتابة.. فالكتابة حياة.. وبإذن الله سوف يستجيب.