كانت الهجرة النبوية سفينة نجاة للمسلمين من أذي قريش وبطشهم. لتصل بهم إلي بر الأمان وموطن الحرية التي افتقدها المسلمون طويلاً. تلك المدينة التي أراها الله نبيه في منامه فقال صلي الله عليه وسلم: "رأيت دار هجرتكم. ذات نخل بين لابتين. فتجهز المسلمون للهجرة إلي المدينةالمنورة. ليبدأوا مرحلة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية. مرحلة لا بطش فيها ولا إذلال. مرحلة الدولة متكاملة الأركان. يعيشون فيها ويمارسون عبادتهم دون تصييق. لتشهد انطلاقة حقيقية في تاريخ الدولة الإسلامية. وغدا تشرق علينا ذكري الهجرة النبوية. فتنشر بين الناس المثاليات والأخلاق العالية. وتدعو الأمة إلي الوفاق المجتمعي وإلي التصافح والتسامح والتصالح. وإلي المؤاخاة التي أرسي مبادئها خير خلق الله صلي الله عليه وسلم حتي تعيش الأمة في سلام وأمان وفي رضاء واطمئنان. وبمناسبة هذه الذكري نتذكر دروس الهجرة وأحاديثها والنبي صلي الله عليه وسلم يقول في شأن الهجرة المخصوصة التي أكرمه الله بها من مكة إلي المدينة: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية. وإذا استنفرتم فانفروا". فبعد فتح مكة خرجت من عبادة الأوثان ودخلت في التوحيد الخالص فلم يعد هناك حاجة للفرار بالدين منها إلي المدينةالمنورة كهجرة إيمان أو إلي الحبشة من قبل كهجرة أمن. فقد آمن الناس وشعروا جميعاً بالأمن. وللهجرة معني مهم في ذاته نراه عند جميع الأنبياء. لأننا لو تتبعنا هجرة الأنبياء لوجدناها كانت لأغراض كثيرة. فأصبحت منهج حياة لطلب الرزق أو العلم أو الأمن أو الإيمان أو غير ذلك. ولذا كان لابد أن يكون للهجرة معني مستمر في حياتنا لمكانتها المهمة من الدين سواء أكان أحدنا ينتقل من مكان إلي مكان أو من حال إلي حال. فقد ورد عن الانتقال من مكان إلي مكان أنه إذا رأي المرء منكراً فليزله أو فليزل عنه. وهو معني قوله تعالي: ûوإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتي يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكري مع القوم الظالمين. وهذا منهاج قوي في مقاومة الفساد وعدم الرضا به. يرتبط ارتباطاً عضوياً مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما الانتقال من حال إلي حال يتمثل في التوبة والرجوع إلي الحق وعدم اليأس من الوقوع في فعل الذنب. لأن الاستمرار فيه أشد من الوقوع فيه. وقضية التوبة هذه هي أساس الرقابة الذاتية للإنسان علي نفسه علي حد قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في خطبته: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا. وتزينوا للعرض الأكبر. يوم تعرضون لا يخفي منكم خافية". وهو مصداقاً لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمني علي الله". ونتيجة لهذا المفهوم فإن الهجرة تكون أمراً مستمراً يدخل في الحياة اليومية للمؤمن وأن مفهومها من ناحية أخري واسع لا يقتصر علي النقلة المكانية. ولقد أصبحنا في أشد الحاجة إلي هذا المفهوم في عصرنا الحاضر حيث يشمل أولاً: مقاومة الفساد والإفساد. سواء أكانت هذه المقاومة بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو التغيير الواجب بكل وسائله أو كانت توبة نصوحة ينخلع فيها المفسد من فساده ويرجع إلي الله بمحاسبة النفس والهجرة بعد العصيان. قال تعالي: ûوسارعوا إلي مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. وثانياً: هذا المفهوم الواسع المستمر للهجرة يجعلنا من المهاجرين وما أدراك ما ثوابهم ومرتبتهم عند الله إذا ما قمنا بما نسميه في عصرنا الحاضر بالتنمية. فهناك ارتباط وثيق بين معني الهجرة الشرعي وبين مقاصد التنمية الشاملة وأهدافها. ويرتبط ذلك أيضاً بقوله تعالي: ûإن الله لا يغير ما بقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم. وإذا ما ذهبنا للقراءة الصحيحة لهذه الآيات والأحاديث كما علمنا رسول الله صلي الله عليه وسلم نجد أنها لا تقتصر علي الحالة الروحية ولا الدلالات اللغوية الضيقة ببعض الألفاظ وإنما تمتد لتكون معني واسعاً يتناسب مع مراد الله من خلقه ومع مراد الله من شرعه. فهذا رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: "أتدرون من المفلس؟". قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: "إن المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطي هذا من حسناته وهذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار". فيجب أن نفهم الدين بهذه السعة كما علمنا نبينا صلي الله عليه وسلم. وإذا كان المسلم المهاجر يترك مكانه إلي مكان آخر. فما معني الهجرة المقصود هنا؟ وإلي أين يهاجر الإنسان؟ إنه في الحقيقة يهاجر من داخله إلي داخله. من إطاعة نفسه ورغباتها إلي طلب القرب من الله عز وجل. ومن الذنوب والخطايا إلي التوبة والمغفرة. فهو في كل حالة من حالاته ينتقل من مرتبة إلي مرتبة. حتي لتصبح حياته كلها هجرة وطلباً وسيراً إلي الله تعالي. فارتباط تاريخنا بمعني الهجرة ينبهنا إلي معني مهم. وهو أن تاريخنا كأمة إنما يصنعه الذين صدقوا مع الله تعالي في هجر ما نهي الله عنه. إنما يصنعه الذين عاشوا معني الهجرة من النفس الأمارة بالسوء إلي النفس اللوامة. ثم ارتقوا بها في أعلي مراتب النفس البشرية إلي النفس الملهمة. فالمطمئنة. فالراضية. فالمرضية.