الهجرة من الاحداث العظمية المليئة بالفوائد والعبر، وما حدث فيها، وما نتج عنها دروس وتوجيهات للمسلمين في كل العصور، تعلم الامة عدم التواكل أو القعود أو الاستسلام، وتؤكد الطاعة والتوبة والإنابة والعمل الصالح والمؤاخاة بين المسلمين. وترسخ الهوية الاسلامية الايمانية لافراد المجتمع، وانتصار الخير علي الشر، وحب الاوطان والعمل والبذل والفداء والتضحية لتحقيق أمنها واستقرارها وتقدمها الحضاري. 'القاهرة'- يقول الدكتور علي جمعة مفتي الديار المصرية إن الهجرة من أهم الاحداث التي غيرت تاريخ البشرية وتركت بصماتها العظيمة علي الانسانية وأن اثارها الجليلة امتدت لتشمل حياة الناس في كل عصر بما رسخته الامة الاسلامية وحضارتها من قيم الحق والعدل والحرية والمساواة،. وما قدمته وما زالت تقدمه للبشرية من اسمي القواعد الروحية والتشريعية الشاملة التي تنظم حياة الفرد والأسرة والمجتمع، وتصلح لتنظيم حياة الإنسان بغض النظر عن مكانه أو زمانه أو معتقداته. دروس من الهجرة ويؤكد أن الامة عليها تذكر دروس الهجرة وأحاديثها والنبي، صلي الله عليه وسلم، يقول في شأن الهجرة المخصوصة التي أكرمه الله بها من مكة إلي المدينة: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا”، مبينا أن للهجرة معني مهما في ذاته نراه عند جميع الأنبياء. فإبراهيم عليه السلام يهاجر طلبا للإيمان، قال تعالي في شأنه:”وقال اني ذاهب الي ربي سيهدين” الصافات 99، وموسي يهاجر إلي أرض مدين طلبا للأمن، وإسماعيل يهاجر إلي أرض مكة لإقامة البيت علي قواعده، ويعقوب يهاجر إلي مصر للحاق بيوسف وأخيه، وهكذا لو تتبعنا هجرة الأنبياء لوجدناها كانت لأغراض كثيرة فأصبحت منهج حياة لطلب الرزق أو لطلب العلم أو لطب الأمن أو لطلب الأيمان أو غير ذلك. المعني المستمر ويضيف أن المعني المستمر للهجرة نابع من مكانتها العظيمة من الدين سواء أكان الانسان ينتقل من مكان إلي مكان أو من حال إلي حال، موضحا انه عند الانتقال من مكان إلي مكان، ورد أنه إذا رأي المرء منكرا فليزله أو فليزل عنه. وهو معني قوله تعالي:”واذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتي يخوضوا في حديث غيره واما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكري مع القوم الظالمين” الانعام 68، وهذا منهاج قوي في مقاومة الفساد وعدم الرضا به، يرتبط ارتباطا عضويا مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما طوره المسلمون قديما في نظام الحسبة وحديثا في المؤسسات الرقابية كالجهاز المركزي للمحاسبات والرقابة الإدارية ونحو ذلك كأنظمة المرور وتفتيش التموين والصحة. فالبعد عن أماكن المعاصي أمرنا الله ونهانا به ونهينا عن السكوت عنه وإلا أصابنا العذاب مع المجرمين، قال تعالي: “واذ قالت أمة منهم لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة الي ربكم ولعلهم يتقون فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون” الاعراف 164-165. الحياة اليومية وأضاف أن الهجرة أمر مستمر يدخل في الحياة اليومية للمؤمن وأن مفهومها واسع لا يقتصر علي النقلة المكانية، مؤكدا ان الامة في أشد الحاجة إلي هذا المفهوم في عصرنا الحاضر حيث يشمل مقاومة الفساد والإفساد، سواء أكانت هذه المقاومة بالأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو التغيير الواجب بكل وسائله. ويؤكد الدكتور محمد داود، أستاذ الدراسات الاسلامية بجامعة قناة السويس إن القران الكريم علمنا سنة استرجاع الاحداث العظيمة في تاريخ الامة لتعود اليها الاجيال لتستمد منها أسباب النصر والقوة واسباب النجاح والفلاح، مضيفا أن هذه المعاني تظهر بوضوح في الاية التي تتعلق بهجرة سيدنا رسول الله صلي الله عليه وسلم- يقول الله تعالي:”الا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن ان الله معنا” التوبة 40. وأضاف أن سبب نزول آية الهجرة هو موقف بعض الناس من قرار النبي-صلي الله عليه وسلم- بمحاربة الرومان الذين اعتدوا علي الدعاة الاسلاميين، ومنعوهم من الدعوة. مشيرا الي ان بعض الناس تملكهم الخوف وقالوا أني لنا بمحاربة هؤلاء؟، وكان الرومان القوة الاولي في العالم انذاك، فأنزل الله اية الهجرة لتستأصل روح الهزيمة من نفوسهم، وتقطع دابر الضعف في قلوبهم، وتطالب المؤمنين بالتضحية والفداء مع الرسول-صلي الله عليه وسلم- كي ينصرهم كما نصر وأيد نبيه ومن معه في الهجرة. وأكد أنها درس قيم في عبور المحن والكوارث والشدائد، لافتا الي ان الهجرة كان يمكن أن تتم في أقل من لمح البصر، فماذا تساوي المسافة بين مكةوالمدينة اذا قورنت بالمسافة بين المسجد الحرام والمسجد الاقصي في رحلة الاسراء، أو المسافة بين المسجد الاقصي والسماوات العلا في رحلة المعراج. القدوة في حياة سيدنا محمد ويقول ان الله تعالي اراد أن لا يحرمنا من القدوة في حياة سيدنا محمد-صلي الله عليه وسلم- في أوقات الشدائد والمحن، فأجري الهجرة وفق الاسباب، لنتعلم كيف يخطط النبي ويرتب دليل الطريق ومن تأتي بالزاد ومن يمشي بالغنم كي يمحو الاثر والرفيق والدابة. كما خالف الطريق والجهة تمويها علي المشركين، موضحا أنها تعلمنا أن لا ننهار أمام المفاجآت غير المتوقعة حين وصل الكفار الي الغار وسيطرت مشاعر الخوف علي أبي بكر فكان الثبات من الرسول- صلي الله عليه وسلم- وكان التماسك قائلا له:” لا تحزن ان الله معنا”، ولنتعلم درس التآخي والتراحم والتعاطف والمؤاخاة بين المهاجرين والانصار. ويقول الدكتور طه أبو كريشة- الاستاذ بجامعة الازهر- ان الامة في أمس الحاجة لتذكر الهجرة المباركة والاستفادة من دروسها الكثيرة وفهم دلالاتها وعبرها العظيمة، مبينا أن الهجرة كانت حدثا فاصلا بين مرحلتين من مراحل الدعوة، وبداية نصر الحق علي الباطل. التوكل علي الله ويؤكد ضرورة الجمع بين الاخذ بالاسباب والتوكل علي الله عند الشدائد، والإخلاص وسلامة القلب، والإعتدال في كل الاحوال، فقد خرج الرسول-صلي الله عليه وسلم- مكرها ولكنه لم يخنع أو يذل أو يفقد ثقته بالله تعالي، ولما فتح الله عليه بالنصرة لم يتعاظم ويزهو تيها، وانما ظل علي العهد والوعد يرجو رحمة ربه. وقال ان الهجرة في جوهرها درس قيم يبين للناس أهمية الثبات في المواقف الصعبة، وأن العاقبة للتقوي وللمتقين، مؤكدا أن الرسول- صلي الله عليه وسلم- علمنا الصمود في وجه اتباع الباطل. وعدم التهاون في دفعهم وتقويم عوجهم، وتقدير حجم الشر بلا تهويل او تضخيم أو خوف حتي لو أشتد بأسه وكانت له الجولة لان العاقبة للذين صبروا والذين هم مصلحون.