الابتكار الفكري هو أكثر ما نتوقعه من الأفلام المعروضة هنا في أكبر مهرجان دولي للسينما تتوقعه أكثر من الاستعراضات المبهرة للمؤثرات أو عمل الجرافيك أو صور الكمبيوتر وأكثر من اللقاءات المباشرة مع النجوم العالميين..فالنقاد عادة ما يشغلهم الجديد والتجديد وليس المألوف أو التقليدي والتحدي الأكبر أمام صانع الفيلم المشارك في هذا الحدث الفني الضخم انه ياسر عشرات المئات من المتفرجين ويبقيهم في حالة اهتمام داخل صالات بعضها يتسع لأكثر من ألفي مقعد.. كتلة أو قل كتل من عشاق السينما من الفئة "أ" أي المهنة بالمضمون والإثارة الفكرية إلي جانب الاستحواذ والمتعة الفنية. والطامة الكبري أن يتوحد الجالسون في الصالة داخل صوت واحد رافض للفيلم في نهاية العرض لأن رفضهم المعلن بمثابة شهادة تؤثر سلبا علي عملية تسويق الفيلم في مهرجان لديه أكبر سوق للأفلام ويحضره أكبر عدد من الموزعين. والفيلم الجديد والجيد قد يأتي من حيث لا تتوقع هذه الجماهير ومن أسماء لم تكتشف بعد أو بلاد ليست لها مرافيء أو منارات قوية علي خريطة السينما وهذه علي أي حال وظيفة المهرجان أو إحدي وظائفه المهمة "الاكتشاف" وما أكثر الأسماء الكبيرة الآن التي تم العثور عليها وسط عشرات الأفلام حين كان أصحابها يبدأون خطواتهم الأولي. في الأيام الأولي للمهرجان ظهرت أسماء لمخرجين ومخرجات تشارك لأول مرة مثل المخرجة الاسترالية جوليا لي الذي عرض لها فيلم "الجمال النائم".. الفيلم مغرق في العري من دون هدف الإثارة ويكشف عن تجربة غريبة في بيت للدعارة مخصص لكبار السن أي للعواجيز ممن انتهت مدة صلاحيتهم الجنسية وأصبحوا يتوقون لإثارة من نوع خاص تستنهض مواتهم الحسي وهم زمرة من الأثرياء المشهورين الحريصين جدا علي التكتم والسرية وممارسة البغاء في منزل شديد الخصوصية وبالطريقة الفريدة التي سنراها في مسار الأحداث. "الجمال النائم" وظيفة "!!" في عالم البغاء.. رغم ان العنوان قديم ويحيلنا إلي أعمال رومانسية جميلة سينمائية وموسيقية وفي مجال الباليه والكرتون. وقصة الفيلم خيالية تستلهم في الأغلب جانبا من الواقع الاجتماعي لطبقة في المجتمع يقولون عنها "النخبة". الجمال والغواية تجسد هذه الوظيفة طالبة جامعية فاتنة جذبها الاغراء المادي فقررت أن تمارس البغاء وأن تمنح جسدها بعد أن يتم تخديرها وتغيب في نوم طويل لرجل ثري لن تراه ولن تشعر هي بالساعات التي سوف تمضيها بينما يعبث بجسدها.. فهذه إحدي شروط العملية. بيت البغاء في فيلم المخرجة الاسترالية شديد النظافة والأناقة والهدوء وصاحبته سيدة ارستقراطية المظهر ثابتة معتدة بنفسها. كتومة حريصة في نفس الوقت علي املاء شروط اللقاء الجنسي لكل الزبائن وأهمها عدم الدخول "بالجمال النائم" أو ترك أي أثر علي جسدها ودون ايذاء بدني من أي نوع. والجميلات بعد تسلم الوظيفة يخضعن إلي تدريب وعملية تنظيف خاصة تقوم بها خادمة آسيوية وصاحبة المنزل حريصة علي تغيير اسم الفتاة كمزيد من الحرص. بعد الانتهاء من العمل تذهب سارة أو الجميلة التي كانت نائمة إلي قاعة الدرس ثم إلي الوظيفة الصغيرة التي تشغلها أو تلتقي بصديقها المدمن الذي يكن لها قدرا من المشاعر. الفيلم يتسم بجو غريب استطاعت المخرجة أن تشيعه بدقة وبجرأة في إظهار المناطق "المحظورة" في تكوين رجال أصابهم الزمن بالترهل وذلك في تناقض صارخ بينهم وبين الجمال الرائع للأنثي العارية المخدرة الممددة فوق سرير وثير في حجرة نوم شديدة الأناقة بعد جرعة كبيرة مخدرة. لم تكن ردود فعل الجمهور قوية إزاء هذا العمل وربما احتاج المرء إلي قراءة ثانية تتجاوز حكاية الشابة الجميلة التي اندفعت إلي عالم البغاء الخاص بالعجائز.. ويمكننا أن نتجاوز الحدوتة إلي تأمل التقابل الذي يفرضه الزمن أحيانا بين الشباب والشيخوخة والأنانية المفرطة لمجتمع النخبة من الرجال المسنين الحريصين علي مد أجل المتع الدنيوية باستخدام المال.. فالفيلم يتضمن إلي جانب الوليمة الجنسية ولائم الطعام واسلوب تناوله مع الخادمات شبه العاريات اللاتي يقمن علي خدمتهم وتحقيق رغباتهم. أيضا يسمح الفيلم لتأمل شكل جديد من أشكال النفاق الاجتماعي والخداع الهائل لمظاهر الاحترام التي تخفي أشكالا من التدني والضيعة وبالذات في التعامل مع الجسد الجميل النائم والعبث به في محاولات مستميتة لتحقيق الإثارة.. المفارقة المقصودة ربما تولدها مشاعر الملل في مواجهة الإثارة التي يفترض أن يحققها "العري". وقد يتساءل البعض عن الاسباب التي جعلت المسئولين عن اختيار الافلام أو المدير الفني يختارون فيلم "الجمال النائم" للمسابقة الرسمية.. فربما كان الدور الصعب الذي لعبته الممثلة اميلي براون في دور الجميلة النائمة. أو التصوير الجيد لزمرة العواجيز الأثرياء وعالمهم السري الذي تدخله المخرجة بجرأة ومن دور مساومة من بين هذه الأسباب. باريس الأخري هناك مفارقة صارخة أيضا بين الكوميديا الرومانسية "منتصف الليل في باريس" للمخرج الأمريكي دودي الين "76 سنة" وبين الفيلم الفرنسي "بوليس" الذي عرض داخل المسابقة. العملان تدور وقائعهما في مدينة باريس الآن. في العمل الأول يستحضر المخرج أجمل الملامح التي تجعل من العاصمة الفرنسية مدينة الجمال والفنون والنور.. ومدينة الالهام التي ينبهر بها الروائيون والشعراء والرسامون ورجال الأعمال والقادمون من الجانب الآخر للمحيط. والثاني فيلم اجتماعي واقعي يستعرض الاوجاع الاجتماعية التي تعاني منها المدينة وبالذات نسبة من الاطفال الذين يتعرضون للايذاء والتحرش الجنسي من قبل آبائهم وامهاتهم.. يعالج الفيلم ايضا مرض "زنا المحارم" و"البيدوفيليا" أي ممارسة الجنس مع الاطفال وذلك من خلال عمل مجموعة من العاملين داخل "وحدة حماية الطفل". يقوم السيناريو علي اسلوب التحقيق البوليسي ولكن من منظور اجتماعي لا يقدم الجريمة فحسب وانما الاثار التي تترتب عليها. ومن ثم يتسم بالنزعة التسجيلية حتي تكاد تصدق انك امام عمل تسجيلي. فالحالات المعروضة يظهر فيها أطفال يعبرون عن آلامهم أو ما قد تعرضوا له من قبل آبائهم بمنتهي العفوية والصدق. والفيلم بطولة جماعية لعدد من الممثلين ادوا عملهم بحيوية وتدفق وتفاعل مع بعضهم البعض.. فضلا عن علاقتهم الانسانية داخل "الوحدة" وعلي مستوي آخر يعالج السيناريو الحياة الخاصة لاعضاء هذه الوحدة كل علي حدة. والمشكلات التي يعاني منها هم ايضا في علاقتهم بابنائهم وأزواجهم واحيانا تصل هذه المشكلات إلي طريق مسدود يدفع واحدة من الفريق العامل في هذه "الوحدة" إلي الانتحار بالقاء نفسها من المبني الذي يضمهم. وينجح السيناريو رغم العدد الكبير المشارك في الفيلم بعمل توازن بين الحياة الخاصة والمشكلات العامة وخلق ايقاع سليم لسير الاحداث ومنح كل شخصية ملامح تبقيها حية وتبقي الفيلم نفسه مثيرا والفيلم من تأليف واخراج المخرجة الفرنسية موين وايمانويل بيركوت ويظهر فيه عدد من الممثلين من أصول عربية تشير إلي مظهر من مظاهر الاندماج في العملية الفنية. العملان الامريكي والفرنسي وجهان لمدينة واحدة الأول سياحي ودعائي دون الاخلال بالجانب الموضوعي الاكثر عمقا. والثاني وهو الأقرب لي شخصيا واقعي برسالة اجتماعية واضحة.