المصريون يفخرون بأن عاصمتهم "القاهرة" لا تنام.. وأن الليل فيها لا يختلف عن النهار.. شوارعها لا ينقطع منها المارة ولا تنقطع منها السيارات.. وكنا نتوقع أن تهدأ حركة المرور بعد الحادية عشرة مساء أو بعد منتصف الليل علي أكثر تقدير.. ولكن ذلك لا يحدث.. بل أحياناً تزداد الحركة ليلاً عنها نهاراً خاصة في فصل الصيف حيث يكون الجو أقل حرارة والأجسام تستطيع تحمله. ويشجع علي هذا السهر عدة أشياء.. استمرار المحلات علي اختلاف أنواعها في فتح أبوابها حتي الثانية أو الثالثة صباحاً.. بل إن بعضها لا يغلق أبوابه إلا في الفجر. ولا يعود لفتحها إلا بعد الثانية عشرة من ظهر اليوم التالي.. أيضاً حفلات السينما والمسارح لا تعترف بأي مواعيد وتمتد أيضاً حتي الثالثة صباحاً.. ناهيك عن المطاعم ومحلات بيع الأكلات الخفيفة. وإذا تأملت وجوه الساهرين في منطقة وسط البلد مثلاً سوف تجد أنهم من الشباب.. فتية وفتيات.. يمشون زرافات وفرادي.. مع أنواع وألوان متعددة من التهريج والضحك.. والسبب معروف هو أن هؤلاء الشباب عاطلون عن العمل.. وحتي من يعمل منهم وهم قلة لا يجد غضاضة في أن يذهب إلي عمله الحكومي متأخراً عدة ساعات.. فلا أحد يحاسب أحداً.. لأن البطالة المقنعة تجد لها سوقاً رائجة في دواوين ومصالح الحكومة والقطاع العام. وقبل عشرين أو ثلاثين عاماً أو أكثر كانت الأسرة تتابع بحرص تحركات أبنائها وبناتها.. وتسألهم عن الأماكن التي يقصدونها والأشخاص الذين يصاحبونهم.. وتحدد هذه الأسر ساعات محددة يعود فيها الأبناء إلي بيوتهم وإلا كان الجزاء الرادع في انتظارهم.. أما الفتيات فلم تكن الأسرة تسمح لهن بالسهر خارج البيت ولو لساعة واحدة.. فالخوف علي البنت بالذات كان الهاجس الذي يسيطر علي الأب والأم.. فسمعتها وشرفها يجب أن يصانا عن القيل والقال. الآن تغيرت الأوضاع وانقلبت العادات والتقاليد الأسرية الراسخة رأساً علي عقب.. ولم يعد الأب أو الأم يسائل ابنه أو ابنته أين كان ولماذا تأخر إلي هذا الوقت من الليل.. الحرية أصبحت بلا حدود وانقلبت إلي فوضي وانفلات.. والنتيجة مشاكل تصل إلي حد الجرائم. الحكومة تدرس اقتراحاً بإغلاق المحلات في العاصمة والمدن عند العاشرة مساء.. الهدف من ذلك توفير الكهرباء وتوفير الطاقة.. وهذا اقتراح في محله.. لأنه سيعقبه هدوء ولو نسبي في الشوارع وخاصة في وسط القاهرة والأماكن التجارية.. وبذلك نكون قد حققنا عدة أهداف من هذا القرار. ويجب ألا تستثني دور السينما والمسارح من هذا القرار إلا بساعتين فقط. فتغلق ومعها المطاعم والمقاهي أبوابها في الثانية عشرة مساء.. ويعامل يوما الإجازة الأسبوعية معاملة باقي الأيام حتي يكون هناك انضباط في كل شيء. في الخارج يعود العاملون إلي بيوتهم بعد انتهاء العمل في الخامسة بعد الظهر ولا يخرجون طوال الأسبوع فتجد الشوارع هادئة من المارة ومن السيارات.. وبعض المحلات تغلق أبوابها في الثامنة مساء والبعض الآخر في التاسعة.. حتي محلات المأكولات. الناس في الخارج يعملون بكل جد.. ومدة العمل 8 ساعات متواصلة تتخللها ساعة غداء في الوسط.. والمتكاسل لا مكان له في أي جهة عمل حتي لو كانت جهة حكومية. نحن في مصر نعتبر أن الأجر الذي نحصل عليه في نهاية الشهر حقاً مكتسباً لا يستطيع أحد مهما كان أن يمسه سواء أدينا العمل أم لم نؤده.. وما أسهل أن يقول الموظف لرئيسه إذا اختلف معه لأي سبب "مش حشتغل وأعلي ما في خيلك اركبه". ولذلك لا غرابة أنه في إحدي الدراسات التي أجريت علي العمالة تبين أن العامل المصري لا يعمل في اليوم أكثر من 28 دقيقة أي أقل من نصف ساعة.. وهذه مأساة بكل المقاييس. فهمنا للحرية تخطي كل المتعارف عليه في العالم كله.. وهذا الفهم لن يوصلنا إلي إنتاج وبالتالي لن يوصلنا إلي تقدم ورخاء. نحن نكره الديكتاتورية.. ولكنها ضرورية أحياناً كثيرة لضبط سلوكياتنا والتزامنا بالعمل.