اكتملت فكرة هذا المقال فى رأسى منذ عدة شهور وكنت أُرجئ نشره حتى يأتى الوقت المناسب الذى ارتأيت أن يكون مع حلول ذكرى العام الأول على الثورة واقتراب موعد الترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية.. وعندما حان موعد طرح الفكرة، وبينما كنت أتهيأ لكتابة المقال فاجأنا البرادعى بقراره الصادم بانسحابه من السباق. وللوهلة الأولى ظننت أن فكرتى قد "نٌسفت" قبل إعلانها على الناس، لأنها تقترح تحالفا انتخابيا رئاسيا بين أبرز مرشح (ليبرالى) وهو الدكتور محمد البرادعى، وأبرز مرشح إسلامى (وسطى) وهو الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، على أن تكون "الصفقة السياسية" هى أن يتولى البرادعى منصب الرئاسة لمدة رئاسية واحدة، وأن يساند أبو الفتوح فى ترشحه للرئاسة للمدة الثانية، وعلى أن يتولى الأخير منصب نائب الرئيس فى المدة الأولى. كانت هذه هى الفكرة وسأشرح أسبابها ومعطياتها بعد قليل.. ولكن بعد التفكير فى قرار البرادعى وتحليل دوافعه لاتخاذ قرار الانسحاب، وجدت أن طرح الفكرة فى هذا التوقيت ضرورى وواجب، وأن صفقة تحالفه مع أبو الفتوح هى المعادلة الصحيحة فى الظرف السياسى الراهن.. وهى صفقة مصيرية يمكن أن تقلب موازين المشهد وتخلق أجواء سياسية جديدة، وتغير كثيرًا من الحسابات والمواقف. ولهذا ندعو كلا من البرادعى وأبو الفتوح إلى مناقشة الفكرة بجدية وبحث إمكانية تنفيذها.. ومن ثم يمكن للبرادعى الرجوع عن قرار الانسحاب، إذا قبل أبو الفتوح بأن يكون نائبًا له للفترة الرئاسية الأولى. ولنبدأ الآن بطرح أسباب ومعطيات الفكرة قبل أن نحلل موقف طرفيّها. إن فكرة إقامة تحالف انتخابى بين مرشحيّن اثنين للرئاسة أحدهما رئيس والآخر نائب، هى فكرة منطقية ومقبولة فى ضوء ما نشهده وما متوقع من عدم قدرة مرشح منفرد على تحمُّل هذه التركة الصعبة من المسئوليات والمهام الجسام.. ذلك لأن كل المرشحين المفترضين يفتقدون الشعبية الطاغية والمؤثرة فى الشارع.. وعليه فإن دمج الحملتين فى حملة انتخابية واحدة، سيعزز فرصهما للفوز معًا.. خاصة إذا كانا من تيارّين فكريّين متقاربيّن. هذا التحالف المقترح سيكون فرصة تاريخية نادرة للتقريب والتطبيع بين الفكرين الإسلامى الوسطى والليبرالى المعتدل.. وتقديم نموذج إسلامى ليبرالى حضارى يبدد المخاوف ويهدئ الخواطر، ويعطى رسائل تطمينية للداخل والخارج.. وهو يقترب من النموذج التركى ويتمثل النموذج التونسى.. وهى فرصة يجب عدم إهدارها لإعادة حالة التوافق الوطنى واسترجاع روح الثورة الغائبة.. تلك الروح التى غيّبها الشرخ الحاصل بين الفرقاء السياسيين.. والذى بدأ يلوح عند الاستفتاء على المبادئ الدستورية حين رأينا البلد وقد انقسمت إلى معسكرين (فسطاطين) كبيرين، معسكر إسلامى مع الانتخابات أولا، ومعسكر ليبرالى مع وضع دستور جديد قبل الانتخابات، كل معسكر يتخوف من الآخر ويتربص به ويُكيل إليه الاتهامات، وترسخ ذلك الاستقطاب الحاد فى انتخابات مجلس الشعب، التى انفض سامرها وانتهت إلى نتائج مقلقة للبعض ومريحة للبعض الآخر. قد يقول قائل إنها السياسة التى تسمح بآراء متباينة وخلافات تتقاطع فيها مع المصالح والمواقف ويتنافس فيها المتنافسون أحزابًا وأفرادًا.. ومن الطبيعى عند الممارسة السياسية أن يقع البعض فى أخطاء وتجاوزات.. ونقول إن ما يحدث يتعدى فى أحيان كثيرة حدود الاختلاف السياسى إلى حدود الخلاف الوطنى.. فالشرخ الحاصل بين المعسكرين ليس فقط نتاج ممارسات سياسية خاطئة، بقدر ما هو تباين شاسع فى الرؤية والمنهج. إن استحقاق الانتخابات الرئاسية، التى ينتظرها الجميع بحسبانها الاختبار الأخير والعامل الحاسم لنجاح الثورة وتحقيق أهم أهدافها المتمثل فى انتقال سلس للسلطة من المجلس العسكرى إلى رئيس مدنى منتخب، هذا الاستحقاق يجب أن ينتج مشروعًا وطنيًا توافقيًا بين القوى الإسلامية والليبرالية.. وقد جاءت فكرة تحالف البرادعى وأبو الفتوح دون غيرهما من المرشحين، لأن كلا الرجلين يتميزان بالاعتدال الفكرى ويتقاربان فى الرؤية والمنهج السياسى. عند تحليل موقف الرجلين وقياس حظوظهما فى الانتخابات الرئاسية المقبلة، نجد أن كلا منهما يحتاج بشدة إلى دعم الآخر.. ولنبدأ بموقف أبو الفتوح، الذى يتميز بأنه كادر سياسى قديم له تاريخ حافل فى النضال السياسى منذ أن كان رئيسًا لاتحاد الطلبة فى الجامعة فى السبعينيات، ونتذكر له وقفته الجريئة الشهيرة أمام السادات.. وهو يعد بحق رائد المد الثانى للإخوان فى السبعينيات والثمانينيات.. وقد ذاق الرجل مرارة السجن والاعتقال طوال حكم مبارك مرات عديدة.. ويتميز أبو الفتوح أيضًا برؤيته الناضجة ومواقفه السياسية الرشيدة.. وتقديمه التصور الوسطى والحضارى للإسلام. لكن أبو الفتوح يفتقر، بكل أسف، لدعم الإخوان زملاء الكفاح ورفقاء الماضى.. وهو أكبر عامل وأقسى ضربة يمكن أن تقلل من فرص نجاحه.. ويبرر الإخوان هذا الموقف بأنهم يرفضون تقديم مرشح إخوانى لمنصب الرئاسة للمدة الرئاسية الأولى كرسالة تطمينية إلى الجميع مفادها أنهم لا يريدون الاستحواذ على السلطة بالكامل، بمنطق "أن لهم الرئاسة ولنا الوزارة". وإذا صدقنا هذا المنطق الإخوانى، مع حسن الظن بأن قرار مكتب الإرشاد بعدم دعم أبو الفتوح هو قرار مبدئى وليس متعلقا لأسباب شخصية مع الرجل.. فإن اقتراحنا يعالج هذه النقطة تحديدا.. فهم إن دعموا هذه الفكرة سيكون البرادعى رئيسًا وأبو الفتوح نائبًا للمدة الأولى ورئيسا للمدة الثانية.. وهذا لا يعارض قرار مكتب الإرشاد، ويعود الابن البار إلى حضن جماعته التى ساهم بعمره فى دعمها وبنائها. أزعم أن هذه فكرة مناسبة للإخوان وأدعوهم إلى مناقشتها بكل عقلانية وتجرد.. وأرى أنها فرصة ذهبية لأبو الفتوح عليه ألا يضيعها ويسارع بتنفيذها مع البرادعى.. وهذا يدخلنا مباشرة لتقييم موقف الأخير. على الرغم من كون البرادعى - فى نظر كثير من الثوار- هو الأب الروحى للثورة ويمثل ضميرها الوطنى الحر، وهو الرجل الذى شكلت أقواله وأفعاله إلهاما للثوار. وساهمت عودته قبل عام من الثورة فى تحريك المياه الراكدة فى مصر وتهيئة الأجواء لاندلاع الثورة.. إلا أن الاتهامات الظالمة التى طالته من أبواق العهد البائد ومن بعض الكارهين، ما زالت تؤثر سلبا على صورته لدى عامة الناس.. فالبرادعى يعلم يقينا أنه سيجد صعوبة بالغة فى الفوز منفردًا دون دعم من القوى الإسلامية، التى أثبتت فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة حضورًا فاعلاً وخبرة بالشارع. ولهذا فالرجل يحتاج بشدة إلى كوادر متصلة بالشارع لتغيير تلك الصورة النمطية المشوهة.. ولن يجد أفضل من الكوادر الإسلامية الأوسع تغلغلا ونطاقًا والأفضل تأثيرًا لمساندته.. ويمكن أن يوفر تحالفه المقترح مع أبو الفتوح الإمكانيات الانتخابية التى يفتقدها.. وخاصة إذا دعم الإخوان برصيدهم الشعبى تنفيذ تلك الصفقة ورصدوا لها إمكاناتهم الانتخابية الهائلة. هناك سببان لا ثالث لهما وراء قرار البرادعى بالانسحاب من سباق الترشح، أولهما (المعلن) وهو رفضه لإدارة المجلس العسكرى للمرحلة الانتقالية وما نجم عنها من تخبط واضطراب سياسى.. والثانى (غير المعلن) وهو شعوره بضعف فرص فوزه فى هذه الأجواء السلبية.. والفكرة التى نطرحها بتحالفه مع أبو الفتوح تعالج هذين السببين من جذورهما.. فعندما يتفق الرجلان وتنطلق حملتهما المشتركة، سينشأ فى مصر واقع سياسى جديد وستتغير كثير من المواقف وستنقلب كل الموازين، الأمر الذى سيعطى زخما وطنيا يعيد لنا روح وأجواء الثورة فى ذكرى عامها الأول. إن هذا التحالف الإسلامى الليبرالى هو الحل الأمثل لكثير من الإشكاليات السياسية المثارة، مثل إشكالية وضع الدستور وشكل الدولة وطبيعة السلطة، (رئاسية أم برلمانية أم مختلطة).. وسيضع الرجلان الحكيمان بمشاركة الحكومة الوطنية الجديدة، التى سيقودها الإخوان، أسس الجمهورية الديمقراطية الجديدة التى يترقبها الجميع.. فهل ستخلص النوايا لبدء التحرك فى هذا الاتجاه؟.. أم أن السياسة فى بلادنا يغلب عليها النازع الفردى وتتغلب عليها الخلافات الشخصية؟ هذا هو السؤال المصيرى الذى ننتظر إجابته من جميع الأطراف.