(1) لي عدد من الأصدقاء من مؤيدي العهد الحالي، كلما حدثتهم وأرسلت لهم مرويات شهود العيان عن كم التجاوزات التي ترتكب في الأقسام وأماكن الإحتجاز وضعوا اصابعهم في آذانهم وقالوا: وما يدريك أنها حقيقية !!، وهكذا يتعاملون مع ضمائرهم بالإنكار، كأنهم من النرويج أو السويد فلم يأتهم نبأ التجاوزات التي عمت وطمت وأصبحت من الحقائق المعلومة عن مصر بالضرورة !!. لكنهم مستمرون في إنكارهم.
(2) لذلك أقدم لهم هذه الواقعة التي حدثت لي مباشرة، لا أرويها عن أحد، بل حدثت لي وعايشتها حتى نهايتها، ولم أكتب عنها رغم مرور خمس سنوات - بل أكثر - لثقلها على قلبي رغم ضآلتها مقارنة بما يعانيه أي مبتلى مع الشرطة حاليًا، حدثت قبيل ثورة يناير، في أوضاع أقل سوءً من الآن، وحيث حجم التجاوزات هو دون ما نراه اليوم، لكنها نفس الشرطة ونفس المنهاج.
(3) الزمان: يوم الأحد 12 سبتمبر 2010، الموافق ثالث أيام عيد الفطر لعام 1431 هجرية. المكان: الطريق الساحلي بين الإسكندرية ومطروح، عند الكيلو 25 من الإسكندرية.
كنت عائدًا من منطقة العجمي إلى شقة العائلة بمنطقة سيدي كرير حيث كنت أقضي إجازة العيد بصحبة أسرتي، وعند الكيلو 25 كانت هناك سيارة فيات تلتزم الجانب الأيسر وتسير ببطئ نسبيًا، وكنت في الحارة الوسطى اسرع منها وأوشكت على تخطيها وإذا السيارة المتباطئة تنحرف فجأة جهة اليمين لشيء بدا في الطريق أمام السائق فأصبح التصادم محتمًا، حاولت تخطيها فأنحرفت سيارتي جهة اليمين ثم جهة اليسار حيث اصطدمت بالسيارة الفيات ثم برصيف الجزيرة الوسطى ثم توقفت بعد أن كادت تنقلب، كانت الخسائر في اكصدام سيارتي ومقدمتها واضحة (حيث السيارات اللانسر ضعيفة)، وكانت الخسائر في السيارة الفيات بسيطة جراء الإصطدام بجانبها الأيمن، دون إصابات بشرية عند الطرفين بحمد الله.
(4) نزل أحد ركاب السيارة الفيات مسرعًا نحوي ليطمئن علي، وعانقني لما علم أنني بخير ودون إصابات، في تلك اللحظة بدأ البعض شهود الحادثة يتجمعون، فخاف سائق السيارة الفيات وأعوزته الشجاعة، فهرب من المكان وترك رفيقه يواجه غضب الناس بسبب فراره، فحميته ودفعت عنه لأنه لا ذنب له، بينما كلم رفيقه هاتفيًا مطالبًا إياه بالعودة لإنه لا داعي للهرب خاصة أنه لا يوجد خسائر بشرية.
(5) تم الإتصال بالشرطة، فوصلت سيارة بها ملازم واثنين معه، وعاين المكان وعاين سيارتي، وفي تلك الأثناء عادت السيارة الفيات، وبدأ الضابط يضع اللوم على سائق السيارة الفيات وقال أن الحادثة واضحة، لكنه ضاق أيضًا بمقاطعاتي لكلامه وتعليقي على كلام سائق السيارة الأخرى، فضاق بنا معًا، وقال أن الحادثة لا تهمه، لكن تهمه تلفيات المال العام !!!. - أي التلفيات ؟!. - تم شرخ بردورتين من بردورات رصيف الجزيرة الوسطى جراء اصطدامك بها !!. - أبدًا يا حضرة الضابط، لم يتم شرخ أي شيء، هذه بردورات اسمنتية متينة جدًا، لقد تحطم إكصدام السيارة بينما البردورتين لم تصب إلا بخدش !!، ومع ذلك لنفرض أنه شرخ يمكنني أن أدفع تكاليف اصلاحه، لكن المهم هي الحادثة. - المهم عندي هو المال العام !!، ستشكل لجنة فنية لمعاينة مكان الحادثة !! (كذا، لجنة معاينة الخدش !!)، وتقدير التلفيات !، أما الآن فسننقل السيارات لنقطة الكيلو 26 ثم ستأتون معي لنقطة شرطة (أبو تلات) لإكمال المحضر. [إن لم تخني الذاكرة عن أسماء نقاط الشرطة].
(6) نقلنا السيارات إلى الكيلو 26، ثم ركبنا ميكروباصات مدنية مع الشرطة إلى نقطة شرطة أبو تلات، حيث أكمل الضابط المحضر، وبدلًا من أن يكون محضرًا لحادثة سيارتين، تحول المحضر – بلا مقدمات ولا اسباب إلا ضيقه من نقاشنا – إلى تهمة إتلاف مال عام !!، وقرر تحويلنا إلى قسم أول العامرية، فأخذنا ميكروباصات مرة أخرى مع شرطيين إلى العامرية !!.
(7) دخلنا القسم، أنا وسائق السيارة الأخرى، وبعد نصف ساعة من الإنتظار وضعونا في تخشيبة ضيقة لكن بجوارهم !!.
(8) لما وجدونا نتحدث وأزعجناهم قرروا وضعنا في الحبس، ذهبوا بنا نحو غرفة الحبس وأخذوا الهواتف المحمولة، رجوتهم ألا يدخلونا غرفة الحبس، خوفًا ممن اسمعه عنها، وبعد رجاءات، وإكراميات بورقات من فئة 50 و20 و10 جنيهات، تكرموا علينا بالبقاء جالسين على الأرض في الردهة المؤدية لغرف الحبس ولكن خارجها.
(9) جلسنا هناك قرابة الساعتين دون طعام أو شراب طبعًا ودون فرصة لدخول الحمام (لحسن الحظ)، أثناء ذلك خرج من المقبرة المسماه غرفة الحبس شاب بائس الحال بالملابس الداخلية وعليه سيما البلطجية، لكنه قال للشاويش: - مش قادر أقعد جوا يا شاويش، الريحة خانقة وتقيأت كذا مرة. فشخط فيه الشاويش: - بقول لك أدخل جوا يا سعد. - خمس دقايق بس أشم نفسي، إحنا 40 واحد جوا، بأقولك بأتخنق، بأموت. فسمح له على مضض بخمس دقائق، ظل ينظر إلينا وننظر إليه دون أن نتكلم. بعدها أمره الشاويش بالدخول مرة أخرى، فعاد إلى المقبرة.
(10) بعد مرور حوالي ساعتين استدعونا، أخذنا الموبايلات وظنناه الفرج، فإذا بهم يضعون (الكلابشات) في أيدينا كالمجرمين !!، ليه ؟!، قالوا سترحلون للنيابة، ووكيل النيابة هو الذي سيحكم في امركم، فإما إخلاء سبيل من سراي النيابة أو ستعودون إلى هنا لإخلاء سبيلكم !!.
(11) وضعوا في يدي اليمين كلابش قيدت فيه مع سائق السيارة الأخرى، وفي يدي اليسار كلابش قيدت فيه مع سائق ميكروباص حدثت له حادثة وانقلب الميكروباص واصيب عدد من الركاب، كان الرجل ينزف وكان مازال على هيئته دون اسعاف حينما حملنا جميعًا إلى سيارة الترحيلات، صعد زميلي السائق، ثم صعدت أنا بالكلبشين، ثم دفعوا سائق الميكروباص النازف، ثم صعد معنا أحد أفراد الشرطة، حتى اذا ركبنا في سيارة الترحيلات دفع إلينا أحد أقارب السائق عددًا من علب الكشري، فكان أول طعام يصل إلينا.
(12) تناولت علبة الكشري بنهم بينما سيارة الترحيلات تنطلق بنا إلى نيابة غرب الإسكندرية، وصلنا ونزلنا، وصعدنا إلى مقر وكيل النيابة، لم يكن موجودًا، قالوا أنه سيتأخر لأن هناك مباراة للأهلي وهو سيشاهدها في بيته - كانت مباراة الأهلي وهارتلاند النيجيري في بطولة أفريقيا - وأنتم وحظكم، لو جاء يبقى حظكم كويس وسيخلى سبيلكم من هنا أو من القسم، لو لم يأتي فسترحلون للقسم وتبيتون في الحبس ثم تعرضون غدًا صباحًا عليه !!.
(13) وجلسنا ثلاثتنا والكلابشات في أيدينا ننتظر، على الأرض طبعًا، لم (يمن علينا) أحد بمقعد، ولم (يمن علينا) أحد بكوب ماء ألا (بالمال) !، نفد شحن الموبايل فإنقطع الإتصال مع العالم الخارجي، جلست أفكر، لو خسر الأهلي أو تعادل فربما لن يأتي وكيل النيابة، ولو أتى فسكون مكفهرًا، وربما أعادنا إلى الحبس مدة !!، وإذا فاز الأهلي فقد يأتي سعيدًا وقد لا يأتي ويذهب ليحتفل، لكن أفضل الإحتمالات لنا أن يفوز الأهلي، ودعوت الله كثيرًا بذلك (دعوة زملكاوي وقت كرب أن يفوز الأهلي).
(14) وفاز الأهلي بحمد الله، وأتى وكيل النيابة – متأخرًا ولكن جاء، و(ما تأخر من جاء) كما يقول العرب !! – فكوا قيودنا قبل الدخول عليه !! – ودخلنا عليه، فأما بخصوص المال العام فستأخذ الجنحة مجراها !!، وأما بخصوص النزاع بيننا فطلب منا التصالح، قلت: لا استطيع التصالح وهذه سيارة الشركة، فأشر أن يخلى سبيلنا من القسم (علمت لاحقًا أنني لو وافقت على التصالح لأخلى سبيلنا من سراي النيابة، وعلمت لاحقًا أن رفضي للتصالح كان بلا فائدة فالسيارة غير مؤمن عليها، أمنت الشركة على السيارات لاحقًا بعد تلك الواقعة) !.
(15) بمجرد خروجنا من عند وكيل النيابة عادت الكلبشات إلى أيدينا بنفس الترتيب، وجلسنا ننتظر سيارة الترحيلات التي أقلتنا إلى القسم مرة أخرى، أبأس سيارة ركبتها في حياتي، وفي يدي الكلابشات تشدني إلى غريمي البائس وإلى سائق الميكروباص الذي توقف نزيفه وتجمد الدم على وجهه وملابسه.
(16) وفي القسم جلسنا عدة ساعات أخرى دون أن يقول لنا أحد ماذا ننتظر، كنا في الواحدة صباحًا عندما جاء ضابط شاب، ملازم، فأمرنا جميعًا أن نقف، وأن نوجه وجوهنا للحائط ففعلنا، وقفنا بهذه الكيفية كأننا أسرى حرب، مرت دقيقة وهو يتحرك في المكان، وجوهنا للحائط وظهورنا إليه، ثم بدأ يشير إلى من يريد له الخروج، أنت....وإنت......وإنت.....وإنت.......يالا بره (هكذا). وكل من يلتقط بطرف عينه أنه يشير إليه يسارع بالخروج كأنه عصفور فتح له باب القفص. أشار إلينا فأسرعنا نسابق سيقاننا ولكن دون عدو خارجين من القسم نشم هواء الشارع في الواحدة صباحًا.
(17) رغم رغبتي الشديدة في العودة لوالدي وأسرتي في سيدي كرير لأطمئنهم بعد انقطاع الإتصال بهم لعدة ساعات إلا أن (مرافقي) سائق الفيات وأخيه وأقاربه أصروا أن يعزموني على العشاء وعلى كوب شاي تطييبًا لخاطري !، وأصروا على توصيلي لسيدي كرير !!، وأعطوني هاتفًا كلمت به أسرتي وطمأنتهم، وجلست على المقهى مع (مرافقي) أحتسي الشاي وآكل سندوتشين فول وفلافل، ثم أخذنا ميكروباص - مرة أخرى، كرهت الميكروباصات – حيث لم يتركوني إلا بعد إلحاح مني في الكيلو 21، ومنه أخذت تاكسي إلى البيت، بعد 12 ساعة من رفقة الشرطة الكريمة !!.
(18) عندما روى والدي الواقعة لاحقًا لصديقه وهو لواء جيش سابق وكان يقضي أجازته في قرية سياحية قريبة منا عاتبني بشدة على عدم الإتصل به أو بأي من معارفنا ذوي الواسطة !!، وقال لي: - كيف لم تتصل بي أو بأي من أصدقاء والدك اللواءات الذين تعرفهم ؟!!، وأنت تعرف أنني في قرية سياحية قريبة، كان اتصال واحد بي أو بأي منهم يكفي، ولا كنت تظل لحظة في الحبس !!!، كنا نصل حتى لحكمدار الإسكندرية لو استدعى الأمر، يا سلام !!، تظل في الحبس بسبب بردورة رصيف ؟!، وكلابشات وكلام فارغ !!، ليه ؟!، وهوا أنت قليل ؟!!، دا أنت مهندس، وابن ناس (!!)، وعندك بدل الواسطة عشرة (!!).
(19) ملخص تلك القصة، أنا المواطن المصري، الشريف، دافع الضرائب التي تصنع منها بردورة الرصيف: - وضعت في يدي الكلابشات، وليس كلابش واحد، بل كلابشين (مشهد لم أره حتى في السينما). - وتنقلت من نقطة شرطة إلى أخرى إلى قسم الشرطة إلى النيابة ثم العودة. - كل هذا بتهمة خدش بردورة رصيف (في أواخر عهد مبارك، حيث المليارات مستباحة من المال العام). - ودفعت إكراميات بثمن بردورة الرصيف، فقط كي لا أدخل مقبرة الحجز. - أنا المواطن، دافع الضرائب، جلست طوال الوقت في الكلابشات على الأرض. - أنا المواطن، دافع الضرائب، لم يأت أحد لي بكوب ماء، ولا كان هناك فرصة للحمام. - أنا المواطن، دافع الضرائب، ظللت تحت رحمة الأهلي وهارتلاند، ووكيل نيابة كان يمكن لمواطنين شرفاء أن يبيتوا في الحبس لأنه يشاهد مباراة كرة. - أنا المواطن، دافع الضرائب، صرفت علي الدولة سيارة ترحيلات ذهابًا وعودة وضيعت وقتي ووقت غريمي، من أجل خدش في بردورة رصيف. - أنا المواطن، دافع الضرائب، المهندس صاحب خبرة الخمسة عشر عامًا في كبرى الشركات، أوقفني شاب يصغرني بأكثر من عشرة أعوام، يوجه وجهي للحائط دون سبب مفهوم، ثم يشير إلي بكبر وهو يقول: يالله بره !، فإذا هذا النداء المتكبر لحظتها هو أفضل ما يمكن سماعه !!. - أنا المواطن، دافع الضرائب، كان يمكن أن أعفى من ذلك كله لو اتصلت هاتفيًا بأي من اللواءات أصدقاء والدي، لأنني من أولاد الناس، ومهندس مش قليل، لكنني فضلت يومها - للوثة أصابتني - أن أعيش يومًا في حياتي كمواطن عادي دون أن أهرع للواسطة، أنا أعايش حياة المواطن العادي الذي لا يملك واسطة، وكانت المرة الأولى (والأخيرة إن شاء الله).
(20) - هذا يا أصدقائي حدث في أواخر عهد مبارك، حيث التجاوزات أقل بكثير مما يحدث الآن، وحدث في خدش بردورة رصيف، حيث لا خصومة مع الشرطة، وليس في تهمة مثلًا مثل التظاهر أو الإنضمام للإخوان، هل مازلتم بعدها لا تصدقون ما يقال عن التجاوزات ؟!!.
(21) بقي أن أقول أن هذا الموقف الذي حدث لي في بلدي تكرر تقريبًا لي قبلها بعامين في دبي !، كنت أقود السيارة في يوم ماطر فانزلقت وارتطمت برصيف الطريق، ويومها تحطمت أجزاء من بردورتين – سبحان الله – وهذه المرة ليست خدوش، بل أجزاء منها تحطمت، وجاءت الشرطة فعاينت ثم أعطتني ورقة لأذهب للمكان الفلاني بعد أسبوعين لدفع تكاليف التلفيات التي سيتم تقديرها خلال الأسبوعين، فقط ورقة أعطوها لي بإحترام وانصرفوا، وبعدها بأسبوعين ذهبت للمكان الهادئ فجلست محترمًا على مقاعد الإنتظار لدقائق حتى جاء دوري فدفعت ما قرر وخرجت آمنًا مطمئنًا، لا كلابشات، ولا وجه إلى الحائط، ولا جلوس على الأرض، ولا سيارة ترحيلات، وأنا لست مواطنًا إماراتيًا، أنا.....مواطن ...مصري.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.