دخل اليهود التيه أربعين سنة, ودخلنا نحن التيه قرونًا عديدة.. ولى صديق فيلسوف بأقوال من رحلوا شغوف, واسمه عبد المنعم محمد محفوظ, واحد من المثقفين الحقيقيين الذين أدمنهم الظل, وأدمنوا هم الثقافة فى صمت.. سألته ذات ليلة عن الخلق الأكثر إلحاحا الذى نفتقده ويفتقده معنا كل أو معظم من يتصدر المشهد الحالى, والكفيل بإخراجنا من حالة الفوضى والتخبط التى نغرق فيها.. فبعث لى بالرسالة التالية, وأحب أن تشاركونى تأملها فهى فعلا مهمة: "الإنصاف.. خلق الإنصاف الابن الأصيل والشرعى لحب العدل.. والعدل أساس الملك.. والإنصاف صعب لايتحمله إلا من يحب الحق أكثر من نفسه، والحق مر لأنه ضد الهوى، وهو مبتغى النفس.. والنفس أمارة ديكتاتورة متمكنة، تفعل بالإنسان ما تشاء.. وتدفعه أن يحصل على كل شىء أو يفوز بالشىء كله.. ومن معان الإنصاف فى اللغة: شطر أو نصف الشىء، وكأنه الرضا بالنصف، والنفس لا يرضيها غير الكل.. والإنصاف: العدل فى المعاملة بأن تعطى غيرك من الحق مثل الذى تحب أن تأخذه منه لو كنت مكانه, سواء فى قول أو فعل.. وعلى أية حالة من غضب أو رضا، مع محبوب لك أو بغيض إليك.. وأول الإنصاف أن تنصف نفسك من نفسك لأن فاقد الشىء لا يعطيه، ومنه إنصاف الناس حتى لو كانوا مخالفين لك فى الرأى أو الدين أو المذهب أو غير ذلك، مما يقتضى التحامل والظلم.. وحتى تستطيع أن تصل إلى ما سبق فيجب عليك أن تتحلى بالتجرد، وتحرى القصد، فالتجرد يعنى عدم الميل والهوى، والمقاصد أى النوايا, من أسوأها حب الظهور، والتشفى والانتقام، والانتصار للنفس.. فتجد كل واحد منا يزين رأيه ومقالته بأحسن الألفاظ ويغضب جدا عندما يسمع نقدا لها, أما رأى كل مخالف وكلامه ومقاله فهو قبيح شنيع لا أصل له ولا قيمة له، وهو إما كلاما صادرا عن جهالة أو عمالة. ومما يساعد على الإنصاف التحلى بالأدب واستجلاء الحقائق بالتثبت، وحمل الكلام على أحسن وجوهه، وتذكر حسنات من تخالفه، وإذا لم يكن بد من المخالفة فانتقاد الرأى وليس انتقاد صاحبه.. واللهم صل وسلم على من قال (ما بال أقوام) (مابال رجال).. يعنى النبى صلى الله عليه وسلم بلغ حد الإنصاف بالترفع عن الإساءة إلى أسماء معينة, حتى يبقى باب المودة مفتوحًا وطريق الرجوع سالكة ممهدة". انتهت رسالة صديقى الرائع ابن منيل الروضة, والإنصاف فعلا صفة نادرة فى هذا الزمان, الذى يساوى بين الثائر والفاجر, والشاعر وسباب الدين, والإنصاف أن تقول لنفسك ربما لخصومى بعض حق أو وجهة نظر.. ولكننا أصبحنا نعيش فى غرف مغلقة لا نسمع فيها إلا ما يوافق هوانا, ولا أستثنى منا أحدًا.. ولعبد المنعم ولعشرات مثله أقول: والله لو أنصفت الصحافة لكنتم كتابها.. بدلا من مئات الأقلام التى لا ترقى شرف حبر المطابع. محمد موافى [email protected]