تبدو البلد اليوم وكأنها أمام شرعيتين: شرعية الانتخابات وشرعية ميدان التحرير.. وهو انقسام خارج أي منطق سياسي، يمكن أن يستسيغه العقلاء، فضلا عما استقرت عليه كل النظم السياسية الديمقراطية. فلا "شرعية" إلا لنتائج الانتخابات.. خاصة إذا كانت ديمقراطية وشفافة وغير مزورة.. وفي مصر الآن تنعقد أول تجربة ديمقراطية بعيدا أي إكراه أو تدخل من قبل الجهاز الإداري للدولة.. بل خضعت لرقابة صارمة على مدار يومي التصويت حيث نُظمت تحت إشراف 11 ألف قاض، وبمراقبة 23 ألف منظمة أهلية، و800 مراقب عربي ودولي، ونحو 1600 صحفي وإعلامي من كل الجنسيات.. وهي انتخابات غير مسبوقة في شفافيتها ونزاهتها.. ما يُكسب نتائجها شرعية تعلو على شرعية "الشارع" والميادين العاجزة عن صناعة "شرعية" موازية لتلك التي أفرزتها صناديق الاقتراع. أنا لست مناهضا لرقابة الشارع على أداء السلطة.. وما يحدث في الميادين ربما يريده البعض محاولة لمشاغبة الانتخابات، غير أنه في تقديري ربما يكون يتجه صوب علاقة تكاملية مع ما يبدو بأنه على النقيض منه. في مصر الآن "أغلبية" اختارت "التغيير" عبر صناديق الاقتراع.. و"أقلية" اختارت "الميادين" طريقا للتغيير.. وهما خياران يستحقان أن يحترما طالما بتنا نحلم بمجتمع ديمقراطي متسامح يسع الجميع، بدون تسفيه أو تجريح أو اعتداء على الحقوق وحريات الآخرين، وطالما ظلت الخلافات داخل أطر التجاذبات السلمية محتفظة بفحواها الإنساني والأخلاقي.. وفي الحالة المصرية الحالية فإنه في تقديري، يظل الخياران: الانتخابات والميادين مطلوبين في آن واحد، سيما في المرحلة الانتقالية: فالتحول الديمقراطي بدأ مشوار الألف ميل بخطوة الانتخابات.. بالتزامن مع احتفاظ الشارع والميادين بوهج الثورة وعافيتها وحيويتها، لردع توحش السلطة وتغولها في المرحلة الانتقالية. المشكلة الحقيقية الآن.. هو أن يقتنع شباب التحرير أن لا شرعية الآن إلا لما أسفرت عنه نتائج الانتخابات.. وأن الاستقطابات والتطرف ورفع سقف المطالب لن يكون مثمرا بالمرة .. خاصة وأن المرحلة الثالثة على الأبواب وبعدها ستنعقد كل الاستحقاقات المترتبة على النتائج بدءا من البرلمان والدستور والحكومة ورئاسة الجمهورية وفق الخريطة السياسية التي أفرزتها صناديق الاقتراع.. وهي حالة جديدة لن يجدي معها إلا "التوافق" وليس الصدام.. لأن الأخير سيكون بين من له "الشرعية" ويملك "التفويض" من الشعب وبين من لا شرعية له إلا المشاغبة وشهوة الخروج على الشرعية. [email protected]