بعيداً عن أكاذيب الساسة والسياسة، وعن سلوكيات الفهلوة والدجل باسم العلم تارة، وباسم الفن والأدب والفلسفة تارة، وباسم الوطنية دائما؛ بعيداً عن كل ذلك صدر قبلَ أيام قليلة كتاب للدكتور جورج صليبا. وهو في الأصل عبارة محاضرة كان قد ألقاها بالإنجليزية في مقر مؤسسة الفرقان في لندن يوم الثالث من جمادى الثانية من سنة 1435ه الموافق الرابع من أبريل من سنة 2014م؛ تحت عنوان "معالم الأصالة والإبداع في الشروح والتعاليق العلمية المتأخرة: أعمال شمس الدين الخفري(956هت/1550م). وهذا الكتاب/المحاضرة، يقع في 170 صفحة. وقد أصدره مركز دراسات المخطوطات الإسلامية، وهو أحد ثلاثة مراكز تابعة لمؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي التي أسسها الشيخ أحمد زكي يماني في لندن في سنة 1988م. والمركزان الآخران هما: مركز موسوعة مكةالمكرمة والمدينة المنورة، ومركز دراسات مقاصد الشريعة الإسلامية، الذي تشرفت بالمشاركة في تأسيسه في سنة 2005م، وبعضويتي في مجلس خبرائه.
و"المحاضرة"كفمهوم في تراث العلم والمعرفة في الحضارة الإسلامية، كانت من الأساليب التي اجترحها كبار العلماء بغرض طرح فكرة واحدة على مجموعة من طلاب العلم المتميزين الجادين، بشرط أن تكون هذه الفكرة جديدة. ويقوم الأستاذ/العالم بشرح فكرته، ودعمها بالأدلة والبراهين المتنوعة، وهو يخاطب بها عقول وقلوب الحاضرين أمامه في آن واحد؛ كي يفهموا ما يقول، ويتمكنوا من التجاوب معه، وطرح مزيد من الأسئلة عليه. وهكذا كانت المحاضرة وسيلة، أو مطية لاختبار الأفكار الجديدة، ولفتح أبواب التأمل والاجتهاد، وممارسة حق السؤال، ثم حق النقد والتجديد وهكذا. وإلى جانب المحاضرة بهذا المعنى، عرف تاريخ العلم في الحضارة الإسلامية وسائل وأساليب تعليمية أخرى من أهما: المناقشة، والمذاكرة، والحوار، والمناظرة، والمدارسة، والتأمل. ولعلنا نفرد لههذ الوسائل مقالاً مستقلاً في وقت لاحق. ومن الدروس التي سنعرفها من هذا الكتاب الجديد لجورج صليبا، أن الجدية في طلب العلم، وفي الإبداع والابتكار؛ أمور لا يوقفها الاستبداد، ولا سوء الأحوال الأمنية(!) أو المناخية، ولا حتى سوء الأوضاع الاقتصادية. وأن التعلل بشيء من ذلك لتبرير الانهيار الحاصل في مؤسساتنا التعليمية، أو العلمية، أمر مرذول وغير مقبول. ويقدم لنا جورج صليبا أكثر من دليل على صواب ما قلناه. عندما استلمت نسختي من هذا الكتاب الجديد لجورج صليبا، شرعت أقرؤه دون إرجاء، ولم أتوقف بعد ساعة أو أكثر قليلاً من القرءاة؛ لا لسبب سوى أنني كنت قد وصلت إلى آخر كلمة منه، منهياً قراءته دون توقف، وفي نفسٍ "قِرائيٍ" (من القراءة) واحد. وعندها تملكني شعور قوي بالرغبة في اجتراح "حيلة ما"أستطيع بها أن استمر في قراءة ما أعتقد أنه بقية الكتاب حتى لا استسلم لحقيقة أنني أنهيت قراءته كاملاً. الأطروحة المركزية للكتاب هي: أن الشروح والتعليقات والحواشي في تاريخ العلم في الحضارة الإسلامية، والتي بدأت في الظهور بعد الإمام الغزالي (ت505ه) في القرن السادس الهجري تقريباً، وتكاثرت واستمرت بعد ذلك؛ كانت وسيلة بارعة من الوسائل التي نقلت الإضافات والابتكارات والاجتهادات الجديدة؛ بل إنهذه الشروح، وشروح الشروح، والتعليقات، في ميدان علم الفلك(أو علم الهيئة حسب التسمية التراثية)كانت معبرة عن وصول هذا العلم إلى عصره الذهبي وقمة ازدهاره في رأي الدكتور جورج صليبا. يتحدى الدكتور صليبا بأطروحته هذه الرأي السائد الشائع للتأريخ العلمي للحضارة الإسلامية، الذي يعتبر أن ظهور نمط الشروح والتعليقات والحواشي في التأليف العلمي كان دليلاً على الركود والتكرار والتقليد والتدهور العلمي. وكان أمارة أيضاً على أن الحضارة الإسلامية بدأت تلفظ أنفاسها الأخيرة. يرفض الدكتور صليبا هذا الرأي، ويقلبه رأساً على عقب، ليس في كتابه هذا فحسب، وإنما في سلسلة متواصلة من أعماله العلمية الرصينة التي أشار إلى بعض منها في هذا الكتاب. الموضوع الدقيق للكتاب ليس سهلاً أبداً؛ فهو يتناول جوانب من إسهامات العلماء في علم الفك. ولا هو موضوع من الموضوعات الفلسفية أو الأدبية التي تستهوي عادة المختصين في العلوم الاجتماعية والسياسية أمثالي. ومع ذلك فلم أتمكن من إغماض عيني إلا حسرة على أن صفحات الكتاب قد انتهت، ووصلت إلى آخر كلمة، من آخر سطر، في آخر صفحة من صفحاته. ولست أدعي، وليس لي؛ أنني فهمت دقائق الاجتهادات العلمية التي ناقشها صليبا بتؤدة واستغراق في إسهامات عدد من كبار قدماء علماء الهيئة(الفلك)بدءاً ببطلميوس، وصولاً إلى شمس الدين الخفري. ولكن سلاسة وسلامة (وأقول: وحلاوة) اللغة العربية التي كتب بها الدكتور جورج صليبا هذا الكتاب، لا تسمح لك إلا "بفهم" جل ما تقرأ، وإن لم تكن متخصصاً، وإدراك الأبعاد الفلسفية والفكرية؛ بل والحضارية للموضوع الذي تقرأه. ولهذا قلت إن هذا الكتاب/المحاضرة فيه سبعة دروس كبرى، من شأنها أن تثري الوعي والجدان والعقل معاً، وهذه هي: الدرس الأول: أن للحضارة الإسلامية أبناءٌتتشرف بانتمائهم لها، ويعتزون هم بانتسابهم إليها. منهم في الوقت الراهن: مؤلف هذا الكتاب الدكتور جورج صليبا، اللبناني الأصل، وأستاذ اللغة العربية والعلوم الإسلامية في جامعة كولومبيا بالولايات المتحدةالأمريكية. ومنهم الأستاذ ميشيل كيلو، المفكر والمناضل السوري المقيم حالياً في باريس هرباً من بطش جزار سوريا، الذي سبق أن حكم عليه بثلاث سنوات سجناً لأنه كتب مقالة لم تعجب زبانيته. وميشيل كيلو وجورج صليبا، لهما أسلاف عظماء في تاريخ الحضارة الإسلامية قديماً من أمثال: يوحنا بن ما سويه الذي عينه الرشيد أمينا عاما على دار الحكمة في بغداد، والأخطل الشاعر النصراني المعروف الذي عبر عن ارتياحه ورغد عيشه لكونه من أبناء الحضارة الإسلامية، وترجم عمق انتمائه فقال: ألسنا من دمشق إلى عمان ... ملأنا البر أحياء حلالاً. ودجلة والفرات وكل واد ...إلى أن خالط النعم الجبالا. وأمثال: جورج، وميشيل، ويوحنا، والأخطل هم أكثر وفاءً وصدقاً في انتمائهم لحضارتهم الإسلامية وثقافتها وقيمها الإنسانية العالية، مقارنة مع آخرين "مسلمين" يعف اللسان عن ذكر أسمائهم. الدرس الثاني: أن الابتكار والتجديد والسبق في بناء صرح الحضارة الإنسانية/الإسلامية؛ هو ابن الاجتهاد والنقد والمثابرة والثقة بالنفس، والانفتاح على آراء الآخرين ومناقشتها بموضوعية وأمانة وسمو أخلاقي. هذا الدرس ينطق به كتاب (محاضرة) جورج صليبا في كل صفحة منه. وما عليك إلا أن تتبع طريقة جورج صليبا نفسه في دفاعه عن أطروحته سالفة الذكر، وتتعلم من مثابرته على مناقشة الآراء المخالفة له، وسعة صدره لها، ودأبه في البحث عن المخطوطات ومقارنتها، وقراءة خطوطها وهي عصية على القراءة. ثم تتعلم من طريقة العلماء الذين تناولَ بعض إسهاماتهم في علم الفلك، وكيف أضاف اللاحق منهم إلى السابق، وكيف ناقش وكيف انتقد آراء مخالفيه، وهو يكن لهم كل الاحترام والتقدير. اقرأ: كيف أن الإمامَ نصير الدين الطوسي(ت:672ه/1274م) ناقش بطلميوسَ(توفى حوالي سنة 150 م)، وكيف انتقد كتابه المسمى "المجسطي"،وحاول إنقاذه من الأغلاط التي وقع فيها. ثم كانت مناقشة قطب الدينالشيرازي(ت:710ه/1311م) لما كتبه الطوسي ورفضه لبعض نظرياته وإتيانه بالجديد. ثم تلاه الشريف الجرجاني(816ه/1413م)، الذي مارس النقد بدوره في أعمال الذين سبقوه، ثم شمس الدين الخفري(ت 956ه/1550م) الذي تفوق على جميع من سبقه، وأتى بما لم يأتوا به في حل المعضلات العويصة في علم الفلك، والأهم هم أنه استطاع أن يطور نظرياته الجديدة وحلوله المبتكرة عبر كتابته الصبورة للشروح والحواشي على كتب من سبقوه، ثم بعد لأيٍ ومعاناة ومكابدة وصل إلى لحظة الانتصار الكبرى في حياته العلمية، فجمع ما سبق أن أدرجه في شروحه وحواشيه على كتب وشروح سابقيه، ووضع كتابه الأمتع والأنفع للبشرية وللحضارة الإنسانية بعنوان مبتكر ومثير؛ هو:"حل ما لا ينحل".وقد أبى أن يمضي على طريقة أسلافه من علماء الفلك واقتصارهم على "حل ما ينحل" فحسب مثلما فعل الشيرازي مثلاً، واعتبر أن نفسه ستظل مصابة بداء عضال ما لم يصل هو إلى "حل ما لا ينحل" !!. وقد فعل بعد عقدين أو أكثر من البحث والاجتهاد. وفي لحظة فرحته الكبرى بحل ما لم يحله السابقون من معضلات علم الفلك أعلن أنه قد شفي من الداء، وأضحى سليماً معافاً فقال "... ارتفع نقاب الحجاب بعناية الله، من الوجوه الحسنة التي توافق الأصول، وتطابق الأرصاد، واندفع الإشكال الذي هو للعقلاء الداء العضال". ولك أن تنظر في أحوال وحالات من حولك ممن يتسمون باسم العلماء: في الدين أو الدنيا؛ ولا حول ولا قوة إلا بالله.