قبل حوالي عشرة أيام تم حضور مفاجئ في موسكو لكل من الرئيس فلاديمير بوتين والرئيس عبد الفتاح السيسي والشيخ محمد بن زايد والعاهل الأردني ، حيث عقدت لقاءات ثنائية مكثفة هناك ، وعقب تلك اللقاءات بأيام قليلة كان بوتين يطلق جسرا من المعدات العسكرية والخبراء والقوات الروسية تصل تباعا إلى الساحل السوري حيث معقل طائفة الرئيس بشار الأسد ، اللاذقية وطرطوس ، وكان التحرك من الكثافة والسرعة لدرجة لفتت عواصم غربية كبرى بما فيها واشنطن التي أبدت قلقها من التحرك الروسي والانغماس في الصراع السوري وأن ذلك يمكن أن يعقد الأمور أكثر ويوسع دائرة الدم والنار ، أيضا نشرت صحف غربية ووكالات أنباء تقارير عن هذا التدخل الروسي المكثف والمفاجئ ، وهو ما لم ينفه بوتين ولا وزير خارجيته لافروف ، وأكدوا أنهم يرسلون الدعم "الإنساني" لسورية ، وأن هناك تعاقدات مع الجيش السوري من خمس سنوات وموسكو تلتزم بها ، ثم لوحوا بعد أن كثر الحديث إلى أنهم قد يضطروا إلى التدخل أكثر في سوريا إذا اقتضت الحاجة ، وهو تمهيد صريح للإعلان عن العمليات العسكرية المباشرة . دخول الجيش الروسي في سوريا بهذه الكثافة يحمل إشارة واضحة إلى انهيار قوات بشار وصعوبة صمودها أمام ضربات الثوار بتشكيلاتهم المتنوعة بما فيها الجيش الحر والتنظيمات الإسلامية المختلفة ، كما يبقى تهديدات تنظيم داعش أيضا خطيرة على الجانبين ، كما أن التدخل الروسي يعني أن تدخل القوات الإيرانية وقوات حزب الله لم تنجح في تعديل الموازين أو إنقاذ بشار ، بما استدعى دخول ثاني أكبر جيش في العالم لدعم بشار ضد ثورة شعبه ، وهذا التدخل يعني أيضا أن أفق التسوية السياسية التي تتفق عليها الدول المعنية بالصراع السوري ، في المنطقة والعالم أصبح مسدودا ، ولا يلوح في الأفق تقارب في وجهات النظر وإنما انقسام حاد يرى الجميع أنه قد لا يحسم إلا بالسلاح . الأزمة السورية أصبحت شاهدا حيا على مستوى الانحدار الأخلاقي الذي وصل إليه العالم اليوم ، فكل هذا الخراب والدمار والدماء وموجات وهجرة الشعب بالملايين ومئات الآلاف من القتلى وهدم مدن بكاملها ، وصناعة بيئة نموذجية لانتشار الإرهاب ، كل ذلك بسبب تمسك أطراف دولية ببقاء بشار على كرسي الرئاسة ورفض إجراء عملية انتقال سياسي للسلطة لقيادات بديلة مشتركة تشرف على انتخابات شاملة برلمانية ورئاسية وتؤسس لدولة مدنية وديمقراطية حقيقية ، وهذا سلوك أسطوري إذا تذكرت أن رؤساء وزارات ورؤساء جمهوريات في تلك العواصم قدموا استقالتهم أو أقيلوا على خلفية أخطاء شديدة التفاهة إذا قيست بما ارتكبه بشار الأسد في سوريا من جرائم . انتشار مساحة المعارك على التراب السوري كافة يجعل من الصعب على القوات الروسية المشاركة المباشرة في جميع الجبهات ، لأن حجم خسائرها قد يكون مروعا ، وربما استلهم بوتين تجربته في أوكرانيا بالتركيز على تدخل القوات الروسية في مناطق الأقليات لتشكيل ما يشبه "تقسيم" أمر واقع ، وهو ما فعله في شرق أوكرانيا ، والمعلومات الواردة من سوريا تفيد بتركيز القوات الروسية على تأسيس قواعد ومطارات جديدة في اللاذقية وطرطوس ، وهي مناطق التمركز للأقلية العلوية التي يمثلها بشار الأسد ، والتي تردد أنها خياره الأخير إذا خسر دمشق ، وفيها توجد القاعدة الروسية البحرية الوحيدة في البحر المتوسط ، فهل يفكر بوتين في استنساخ تجربته الأوكرانية في الساحل السوري . هنا لا بد من تذكر فوارق مهمة بين التجربتين ، لأن العقيدة القتالية مختلفة ، والنماذج البشرية التي تقاتل في سوريا تملك من الجرأة والتضحيات ما يمكنه أن يسبب متاعب كبيرة للروس ، كما أن تدخل الجيش الروسي بهذا الحجم والعلانية بما يشبه غزو سوريا يمكن بسهولة أن يحيى تجربة الجهاد الأفغاني ، ولن يفيد تستر بوتين بأن تدخله كان بدعوة من "الرئيس" الشرعي ، فهكذا كان أمر السوفييت أيضا مع بابراك كارميل ومحمد نجيب الله ، ولم يكن ينظر الشعب الأفغاني لهما كرؤساء وإنما عملاء للروس ، والمخاوف هنا أن يؤدي هذا الغزو إلى أن تستنفر جهود وطاقات الحركات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي بكامله من أجل مواجهة "الغزو الروسي"، وسوف يتدفق على الأراضي السورية والعراقية مئات الآلاف من المقاتلين تحت شعار "الجهاد" وصد العدوان الروسي ، وهناك دول إقليمية معارضة للتدخل الروسي لا تحتاج إلا لتسهيل المرور وغض النظر عن مرور السلاح ، وسيكون من الصعب على بوتين ، كما كان صعبا على السوفييت ، الانسحاب بشكل مهين مهما كانت الخسائر ، وبالتالي يزداد الانغماس أكثر في الوحل السوري ، حيث تتحول الورطة إلى مقامرة ، والأخطر هنا أن تلك الفوضى العارمة في المنطقة ستكون على حدود "إسرائيل" ، وعندما ينتهك الجميع أي قواعد أو حسابات فهذا يعني أن "الكيان" نفسه غير مستبعد من الانغماس في لهيب المعارك حتى لو مضطرا ، ولعل هذا ما جعل الأمريكيين يبدون قلقا كبيرا من التدخل الروسي وعواقبه وتلميحهم بأنه قد يوسع نطاق الفوضى والعنف ، والأمريكان لا يعنيهم كثيرا الفوضى والعنف في سوريا ، وإنما يعنيهم بالمقام الأول "إسرائيل" . بوتين شخصية تتسم بالعناد السياسي ، ويحمل "جينات" سياسية وعسكرية شبيهة بحكام العالم الثالث ، ولعل هذا ما جعله كارها لثورات الربيع العربي بكاملها ، في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ، وله موقف سلبي جدا منها ، حتى أنه يندم علنا على موافقته على قرار مجلس الأمن بفرض حظر جوي في ليبيا مما مكن الثوار من حسم المواجهة مع عصابات القذافي وأبنائه ، وتحركه الأخير في سوريا يعني أنه يصر على فرض إرادته السياسية ، غير أن "الكابوس" الأفغاني سيجبره على تحديد نطاق تمركزه العسكري ، والحرص على عدم التورط في المعارك مع الثوار السوريين أبعد من الساحل .