حتى الآن ليس ثمة ما يشير إلى أن السلطات المصرية تسير نحو النهج الصحيح لمعالجة ما يحدث في سيناء.. إذ ليس هناك حديث إلا حديث الأمن.. والأمن فقط.. خطط التنمية الكبرى الزراعية والتجارية ذات الأبعاد الاستراتيجية الكبرى.. لا زالت حلمًا بعيدًا وبعيدًا جدًا. وإذا تحدثت عن فتح قنوات التواصل بين سيناء وبقية المحافظات وشق الطرق ومد خطوط سكك حديدية وتشجيع الاستثمار وإعلان سيناء منطقة واعدة تجاريًا وسياحيًا..كل ذلك يعد من قبل الوهم الكبير.. لك أن تعلم أن سيناء لديها أطول ساحل في البلاد بالنسبة إلى مساحتها وهى أقل صحارينا عزلة وفي جيولوجيتها الإقليمية تكاد تختزل جيولوجية مصر كلها تقريبا وبالرغم من أنها منطقة صحراوية أو شبه صحراوية على أفضل الأحوال.. لكنها أغزر مطرا من الصحراوين الشرقية والغربية. سيناء مسألة متجاوزة للبعد الأمني المجرد إلى المدى الاستراتيجى كله (الحضاري والإنساني والأخلاقي) وفي القلب منه منظومة (الأمن القومي) كل الغزوات التي تعرضت لها مصر عبر التاريخ كانت من البوابة الشرقية. العلامة الاستراتيجى جمال حمدان له دراسة شاملة عن سيناء يصف فيها كيف كانت على مر التاريخ موقعا للمعارك الضارية مع الغزاة ويقول: حين كان ماء النيل هو الذي يروى الوادي كان الدم المصري يروى رمال سيناء ولن تجد ذلك غريبا إذا أدركت أهمية الموقع الاستراتيجي لسيناء بالنسبة لباقي مصر تطور الحروب على مدار التاريخ ساهم في تحويل سيناء إلى (أرض معركة) بعد أن كانت (طريق معركة) ومن (جسر حربى) إلى (ميدان حربى) وبالتالى من (عازل) استراتيجى إلى (موصل )جيد للخطر. وبعبارات محددة يلخص حمدان دور سيناء في نظرية الأمن القومي المصري في أن من يسيطر على فلسطين يهدد خط دفاع سيناء الأول(من يسيطر على فلسطين الآن؟!) ومن يسيطر على خط دفاع سيناء الأوسط يتحكم في سيناء ومن يسيطر على سيناء يتحكم في خط دفاع مصر الأخير. عاشت سيناء عزلة سياسية واجتماعية وتنموية طوال السنين الماضية وبخاصة بعد اتفاقية (كامب ديفيد ) والتي ينص ملحقها الأمني على محدودية الوجود العسكري المصري في سيناء.. فمعروف أن الاتفاقية قسمت شبه جزيرة سيناء إلى ثلاث مناطق عسكرية ( أ ) و( ب )و( ج )وتعد المنطقة (ج) الأخطر بوصفها تمثل الشريط الحدودي مع ( المنطقة العازلة) التي تحاذي قطاع غزة بطول 14 كم وبعمق 500 م حتى الآن...وهي قابلة للزيادة وبالمقابل يعد الشريط الحدودي بين إسرائيل ومصر والذي يبلغ طوله 184كم.. آمنا !!؟؟ فكرة المنطقة العازلة تمثل رغبة إسرائيلية قديمة وكانت مطروحة من أيام مبارك.. الجديد في هذا الشأن هو التحول الإسرائيلي حيال القبول بالوجود العسكري المصري على الشريط الحدودي مع الأراضي الفلسطينيةالمحتلة أو ما يسمى بالمنطقة ( ج ).. تفسير هذا التحول السريع في الموقف الإسرائيلي حيال القبول بالوجود العسكري المصري في سيناء بأن إسرائيل لم تعد تشعر بوجود خطر يمكن أن يشكله الجيش المصري حيالها إذ يشير( رعنان جيسن )المتحدث السابق باسم الحكومة الإسرائيلية إلى وجود تغيير كبير تجاه الموقف من الجيش المصري في سيناء وأنها تطمح ربما في تحويله إلى حماية أمنها عبر خنق المقاومة الفلسطينية بقطع قنوات الإمداد الغذائي والعسكري.. وبناء على ذلك تعمل إسرائيل على رفع وتيرة التوتر بين مصر والفلسطينيين في غزة(حماس) كى يدخل الجيش المصري في مواجهة معها من جهة ومع الجماعات المتطرفة داخل سيناء من جهة أخرى.. إسرائيل الآن تقوم بإعادة ترتيب أولوياتها فبعد أن أظهرت حرب غزة الأخيرة قوة المقاومة الفلسطينية وفشل الجيش الإسرائيلي في القضاء عليها فقد باتت في نظر إسرائيل تمثل التهديد الحقيقي والمباشر لأمنها لذلك فإن خير وسيلة لاحتواء خطر هذه المقاومة وتفكيكها هي دخولها في مواجهة مع الجيش المصري _لا قدر الله_ما يؤدي إلى استنزافهما معا..عودك على بدئك نفس ما حدث في حرب 1948م أيام النكبة الأولى مع اختلاف التنويعات!!. منهجية التحريض التي يتبعها الإعلام المصري تجاه حركة حماس والفصائل الفلسطينية الأخرى وتلفيق التهم إليهم بتهديد الأمن القومي المصري..قد توصف بأنها خيانة كبرى للأمن القومى..وأنا أتصور أن الأمر يتم بهذه المنهجية المنظمة نتيجة (تحريكة) من جهة واحدة صاحبة مصلحة عليا في إنهاك (حماس) وأيضا تحويل تدريجى ل(عقيدة) الجيش المصري في تحديد (من هو العدو؟).. أنت أمام إعلام يعي جيدًا ما يقوله.. ويدرك تمامًا تأثيرات هذا القول على أمور عميقة وبعيدة المدى في منظومة الأمن العربي كله.. وليس المصري فقط. المأساة الحقيقة فعلاً في تدهور العلاقة بين مصر وحماس على مذبح حسابات سياسية شديدة الضيق.. ومع تعرض حماس لضربات إسرائيلية من جهة ومع استمرار الحصار والمعاناة من جهة أخرى فقد يساعد كل ذلك في زيادة الحريق اشتعالاً. .................................. لن أكف عن القول بأن الفراغ العمراني في سيناء (التي تمثل مساحتها ثلاثة أضعاف مساحة الدلتا ويعيش فيها نحو مليون مصري) له دور مهم في جعلها مسرحا للإرهاب اليومى.. الرد العملى على كل ذلك يكمن في كلمة واحدة هى(العمران)... الأمانة تقتضى أن نذكر أن كبار رجالات العسكرية المصرية أمثال الفريق يوسف عفيفي واللواء منير شاش واللواء عادل مسعود واللواء محمد نبيل فؤاد جميعهم أكدوا _كل من موقعه _الضرورة القومية والاستراتيجية لتنمية وتعمير سيناء وإقامة مجتمعات عمرانية كاملة ونموذجية بها.. لم يعد الاهتمام بسيناء بابًا من أبواب الرفاهية بل ضرورة مبنية على حقيقة أكدها ذات يوم العلامة جمال حمدان حين طالب بامتزاج التعمير البشرى والعمراني في سيناء بمشاريع الدفاع من أجل ملء الفراغ وكخطوة أساسية نحو تمصيرها تمصيرًا تامًا وإلى الأبد. أين مشروع إنشاء ألف قرية في ممرات سيناء الأربعة الذي طرحه المهندس حسب الله الكفراوى ذات يوم؟..ولماذا اكتفى هنا بالقول وذهب إلى الساحل الشمالي بالفعل؟ كم منا يعرف تاريخ سيناء أو جغرافيتها أو ثرواتها أو تقاليد أهلها وتراثهم وثقافتهم أو أسماء قبائلها؟ وكم منا يعرف أن سيناء ليست فقط فلكلورًا وأعشابًا طبية وملابس مطرزة ومخدرات؟.. كم منا يعرف أن سيناء اليوم بحاجة ماسة إلى من يسعى إلى حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعانى منها؟ وكم منا يعرف أن مصر كلها بحاجة إلى استثمار الموارد المتعددة المطمورة والمتواجدة في هذه البقعة الغالية؟ وبحاجة أكبر إلى تعميق الهوية العربية والانتماء الوطني ودمج سكان سيناء ضمن نسيج الأمة من خلال برنامج بعيد النظر يستجيب إلى حاجاتهم ويحقق مشاركتهم الفاعلة؟ وكم منا يعرف أن أهل سيناء رفضوا عرض الصهاينة عليهم بالانفصال عن مصر؟. لقد بات فرض عين على كل صاحب قرار في مصر أن يكشف مكامن القصور والخلل في معالجة أزمات سيناء المتلاحقة (وبعيدا عن الحل الأمني فقط )ويساهم في صياغة رؤية تساعد على تعزيز مشاركة أهل سيناء في إدارة شؤونهم المحلية وتحملهم أعباء الدفاع عن الوطن.. لماذا لا نسمع وسط هذا الصخب العنيف إلا صوت (جماعات التطرف) المسلحة وقوات الأمن.. أين صوت أهل سيناء؟ هل هم على الحياد فيما يجرى؟ إذا كان ذلك صحيحًا.. فتلك كارثة قومية وأمنية من الطراز المرعب.. استراتيجية تعزيز انصهار أهل سيناء في كيان الأمة المصرية العظيمة (مهمة قومية عليا).. علينا أن نبدأ فورًا بحل المشكلات الإجرائية العالقة (الجنسية والمواطنة وتملك الأراضي وإلغاء أي شعور بالتمييز لدى السكان المحليين). علينا أن نبدأ فورًا بتعزيز التواصل والاعتماد الاقتصادي المتبادل بين شمال ووسط وجنوب سيناء والنظر في إمكانية تشييد مدن جديدة بين رفح وطابا تفتح أذرعها لاستقبال الملايين من أهل الوادي والدلتا. سيناء ليست مجرد صندوق من الرمال كما قد يتوهم البعض إنما هي صندوق من الذهب مجازا كما هي حقيقية..تلك هي النتيجة التي يقودك إليها وصف الدكتور جمال حمدان لشخصية سيناء وهى من الكلمات الأخيرة للعالم الكبير والتي جمعها في كتاب واحد قبيل وفاته عن بوابة مصر الشرقية في محاولة منه للحث على تعمير سيناء كحل وحيد لحمايتها وحمايتنا. ما يحدث الآن في سيناء ليس بعيدًا عن محاولات المستعمرين نزع الهوية المصرية عن سيناء حدث هذا وقت الاحتلال البريطاني حين قام بالترويج إلى أن سكان سيناء آسيويون لأنها جزء من قارة آسيا.. وحدث هذا بعد (هزيمة كل يوم) يونيو 1967.. وحدث أيضًا أثناء حرب أكتوبر حيث ظهرت أصوات في الغرب تدعو إلى تدويل سيناء أو تأجيرها أو حتى شرائها كحل جذري لمشكلة الشرق الأوسط! سيناء لم تكن أبدًا أرضًا بلا صاحب.. منذ فجر التاريخ.. وسيناء مصرية. وأخيرًا أود أن أشير بوضوح شديد إلى موضوع قد يغيب عن الأذهان وسط هذا الضجيج الصاخب.. فإذا كانت القوى الاستعمارية قد استخدمت (الجيوش) بعد الحرب العالمية الثانية لتقسيم وتقطيع الأمة.. فهي تقوم الآن بمزيد من التقسيم والتقطيع باستخدام (المتطرفين).. الذين تثبت الأحداث كل يوم أن لهم (قربى وقرابة) داخل أجهزة التآمر العالمى. يحدث هذا في الوقت الذي يتم فيه (سفح) دماء (المعتدلين) وتصفيتهم وتغيبهم عن مجريات الأحداث.. وما يحدث في سيناء ليس بعيدًا عن ذلك.. بل شديد القرب.