ما أن أعلن المجلس الانتقالي في 20 نوفمبر عن اعتقال عبد الله السنوسي في مدينة سبها ، إلا وأكد كثيرون أن كنز أسرار العقيد الراحل معمر القذافي بات بحوزة الليبيين والعرب ، بل والعالم أجمع . فمعروف أن عبد الله السنوسي رئيس جهاز الاستخبارات الليبي السابق كان ذراع القذافي في إحكام سيطرته الأمنية على البلاد التي اتسمت بالقسوة والعنف ، بل وعقله في إدارة خلافاته مع العرب والعالم ، وهذا ما ظهر واضحا في وثيقة دبلوماسية أميركية سرية نشرها موقع "ويكيليكس" مؤخرا وأظهرت أنه تدرج في السلك العسكري الليبي وأسندت إليه عدة مهام أمنية حساسة بينها قيادة جهاز الأمن الخارجي والاستخبارات العسكرية وما يعرف ب"الكتيبة" وهي الجهاز الذي كان مكلفا بحماية الديكتاتور الراحل . وأضافت الوثيقة أن السنوسي كان ظل القذافي والمشرف على كل ترتيباته الشخصية بما في ذلك مواعيده الطبية ، كما أنه كان يمثل الوجه القمعي للنظام داخل البلاد ، ويعتقد أنه يقف وراء تصفية عشرات من الأصوات المعارضة في الداخل والخارج. وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن السنوسي -وهو زوج أخت صفية الزوجة الثانية للقذافي وينحدر من قبيلة المقارحة- واجه أيضا اتهامات بالمسئولية عن مجزرة سجن أبوسليم بطرابلس في يونيو/حزيران 1996 التي قتل فيها قرابة 1200 سجين معظمهم من المعتقلين الإسلاميين بالرصاص بعد احتجاجهم على ظروفهم السيئة داخل السجن. وبالنسبة لجرائمه خارج ليبيا ، فإنه يواجه اتهامات بتدبير محاولة فاشلة لاغتيال العاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2003 حينما كان وليا للعهد ، كما حكم عليه القضاء الفرنسي بالسجن مدى الحياة على خلفية اتهامات له بالمسئولية عن مقتل 170 شخصا في تفجير طائرة تابعة لشركة يوتا الفرنسية فوق النيجر عام 1989، وهو الحادث الذي أدى حينها إلى إصدار مذكرة اعتقال دولية بحقه . وتبقى حمامات الدم التي سالت في ليبيا منذ تفجر ثورة 17 نوفمبر هي دليل الإدانة القوي ضد السنوسي ، حيث تحالف مع إسرائيل لقتل الآلاف من المدنيين الأبرياء ، وهذا ما ظهر في فضيحة "غلوبل سي إس تي" . ففي 28 فبراير الماضي ، كشفت وسائل الإعلام الإسرائيلية النقاب عن اجتماع عقد في قاعدة عسكرية بالعاصمة التشادية إنجمينا وضم رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية الجنرال آفيف كوخفي ووزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شلومو بن عامي وعبد الله السنوسي ، حيث عرض الأخير على تل أبيب حينها تزويد حكومته بآلاف من المرتزقة الأفارقة للقضاء على الثوار المطالبين بإسقاط نظام القذافي ، في مقابل حصولها على خمسة مليارات دولار قابلة للزيادة إذا ما برهن مرتزقتها على فاعليتهم في إجهاض ثورة 17 فبراير . ويبدو أن ما خفي كان أعظم حول علاقة القذافي بإسرائيل , ولذا من غير المستبعد أن تساعد التحقيقات مع السنوسي في كشف مفاجآت بالجملة في هذا الصدد . وبصفة عامة ، فإن اعتقال السنوسي ومن قبله سيف الإسلام أزال خطرا كبيرا كان يهدد ثورة 17 فبراير , حيث تعهدا أكثر من مرة بشن حرب عصابات ضد النظام الجديد في ليبيا للثأر لمقتل القذافي . ويبقى الأمر الأهم وهو أن اعتقالهما يفتح منجما من الأسرار حول حقبة القذافي التي استمرت حوالي 40 عاما وتخللها الكثير من العنف الدموي والقرارات الغامضة وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة مع الغرب . ففي 21 نوفمبر ، ذكرت صحيفة "الاندبندنت" البريطانية أن سيف الإسلام القذافي يملك منجما من المعلومات حول اتفاقات نظام والده مع الغرب، فرئيس الوزراء الأسبق توني بلير واللورد ماندلسون وأسماء مثل ناثانيال روتشيلد وأوليغ ديراباسكا كلهم مرتبطون به. وأكدت الصحيفة أنه بغض النظر عن الطريقة التي سيتم التعامل بها في محاكمة سيف الإسلام القذافي، فإن السؤال يتمحور حول دوره المحتمل في الاتفاقات مع الغرب في موضوع النفط، أو الإفراج عن عبد الباسط المقراحي ؟. وكشفت "الاندبندنت" أنه كثيرا ما لعب دور الوسيط في نظام والده، ففي عامي 2002 و2003 ساعد في إنجاز الاتفاق الذي انتهى بتخلي ليبيا عن برنامج أسلحة الدمار الشامل، وتدخل لدى مجموعات مسلحة للإفراج عن رهائنها، وموّل أبحاثا في مدرسة لندن للاقتصاد حيث حصل على شهادة دكتوراه ثم لاحقته اتهامات بأنه انتحلها، واشترى منزلا في هامستد بشمالي لندن بعشرة ملايين جنيه إسترليني، واستقبل قادة عالميين ومفكرين غربيين في ليبيا ورسم لنفسه صورة بطل الإصلاحات السياسية والاجتماعية ، وفي عام 2009 شارك في تسهيل الحوار الذي أفضى إلى الإفراج عن المتهم الوحيد بتفجير لوكيربي عبد الباسط المقراحي. وتابعت " هذه الفترة جعلت منه وجها إصلاحيا واتصل بأشخاص مثل اللورد ماندلسون والأمير أندرو، ورجل الأعمال أوليغ ديريباسكا ، حيث استثمرت ليبيا مبالغ ضخمة في مصانعه للألمنيوم "، مشيرة إلى أنه من بين الوثائق التي عُثر عليها بطرابلس في شهر سبتمبر/أيلول الماضي رسالة تعود لعام 2007 من توني بلير حيث خاطب سيف الإسلام قائلا :" عزيزي المهندس سيف وأهديك أروع التمنيات " ، كما عرض عليه المساعدة في أطروحته بمدرسة لندن للاقتصاد". وانتهت الصحيفة إلى القول إن سيف الإسلام أثبت في النهاية أنه ابن والده ، فقد توعد المعارضين في بنغازي بعد خمسة أيام من بدء المظاهرات بنهر من الدماء إذا رفضوا عرض إصلاحات الحكومة ، وتحول من أمل لإصلاح نظام والده إلى هارب تطارده المحكمة الجنائية الدولية، وانتهى في قبضة الثوار في 19 نوفمبر . والخلاصة أن اعتقال عبد الله السنوسي وسيف الإسلام القذافي طوى صفحة مأساوية في التاريخ الليبي ، إيذانا بانطلاق بلد عمر المختار نحو الديمقراطية والتنمية .