التجربة الفرنسية في أزمة الحجاب ، في تقديري ، كانت هي أكثر التجارب أهمية ، لأن التحرش ب"الحجاب" لم يكن من قبل جماعات سياسية أو مؤسسات تتمتع بالاستقلالية عن الولاية الرسمية للدولة ، و إنما كانت "فرنسا الدولة" هي التي في مواجهة مع "الحجاب" ! قد يرى البعض أن ثمة مبالغة في تقدير هذه الاهمية للنموذج الفرنسي ، على أساس ان دولا عريية و اسلامية ، اتخذت مواقف أكثر تشددا في مسألة الحجاب ، حتى أني سمعت على قناة الجزيرة وزير داخلية تونسي سابق و هو يفتخر ، بنجاح تونس في القضاء على ظاهرة "الحجاب" ! بل بلغ الأمر حد ان يصف وزير الشئون الدينية التونسي الحجاب بأوصاف لم يقلها حتى غير المسلمين ! و قرأت للأديب المصري ، يوسف القعيد في زاويته بإحدى الصحف المصرية المستقلة ، احساسه بالفرحة و الفخر و السعادة لأنه لم يشاهد في إحدى زياراته لتونس امرأة واحدة محجبة ، و اعتبر ذلك انتصارا لقيم "الديمقراطية" و "التنوير" ! هذا .. صحيح .. بعض الأنظمة العربية و الاسلامية اتخذت مواقف عدائية من الحجاب أكثر من فرنسا ! غير أن ثمة فارق جوهري و مهم بين الإثنين : فالدول العربية و الاسلامية كان موقفها من الحجاب ومن الظاهرة الاسلامية عموما موقفا "أمنيا" ، باعتباره دعاية و تشجيعا على اتساع نطاق المعارضة الاسلامية التي تعتبر أقوى التيارات السياسية ، التي تمتلك من "الشرعية الجماهرية" ما يؤهلها لتكون أقوى البدائل المطروحة لنظم الحكم "الفاسدة" والقائمة التي لا تستند إلا على أجهزتها الأمنية و الاستخباراتية ، و اشاعة روح الفزع و الخوف لإخافة الناس من التعبير عن رأيها فيها بصراحة ! أما فرنسا الدولة .. فإن موقفها مختلف تماما بل على النقيض .. إذ كانت مخاوفها تستند إلى مخاوف ثقافية .. و قلق حقيقي على هويتها المسيحية ، و هذا الأمر يحتاج إلى بعض التفاصيل : فلقد تباينت الآراء بشأن القانون الفرنسي الذي حظر ارتداء المسلمات الحجاب في مؤسسات الدولة الرسمية ، البعض رأى انه لا يتضمن أي شبهة تحيز ضد المسلمين ، على أساس أنه يحظر أيضا الشارات الدينية الأخرى لليهود و المسيحيين . و الحال أن هذه الشارات كانت سائدة و بشكل علني في المجتمع الفرنسي منذ صدور قانون عام 1905 الذي فصل الدين عن الدولة . دون أن يثير حفيظة أو ريبة أحد و لم تعتبر طوال المائة عام المنصرمة ، تعديا أو تهديدا للعلمانية الفرنسية و لم تكن موضوعا للخلاف و الجدل بين القوى السياسية المختلفة ، و لا استنفرت أجهزة الدولة ، و لا سنت التشريعات و القوانين للحد منها . و الحال أن هذا التعايش بين هذه "الشارات" و "الدولة" ، كان تعايشا طبيعيا و امتدادا رمزيا للأصول الثقافية للدولة ، بيد أنه لم يكن في أصله دليلا كما يعتقد البعض على إعلاء العلمانية الفرنسية لقيمتي الاختلاف و الحرية الشخصية ، و إنما ظاهرة تحتضن ضمنيا ، قدرا من التحيز للثقافة اليهودية المسيحية . باعتبار أن أوروبا بما فيها فرنسا ، هي في حقيقة الأمر ، سليلة هذه الثقافة . و تكتسب الأخيرة أهميتها في الوعي الجمعي الغربي ، من كونها المحدد الأساسي لهوية الغرب و خصوصيته الحضارية و تمايزه الثقافي سيما و أنه ليس ثمة من يدعي أن العلمانية و في أكثر صيغها نقاء و مثالية ، تعتبر وعاء ثقافيا يعبر عن هوية أمة و عن انتسابها الحضاري . و لعل ذلك يفسر هذا الموقف الفرنسي الرسمي و غير الرسمي المتشدد إزاء الحجاب . فالأخير بما يتضمنه من حمولة رمزية لثقافة و حضارة مغايرة و مناضلة في الوقت ذاته ، لا يمثل كما يدعى بعض الفرنسيين تهديدا للعلمانية الفرنسية ، و إنما تهديدا ل"ثقافتها" أو بالأحرى ل"هويتها" ، أي أن ظاهرة الحجاب ، وضعت الدولة أمام خيارين : إما الانحياز ل"العلمانية" و التخلي عن "الهوية" و إما العكس . فانحيازها للأولى يفرض عليها أن تتحلى بالحيدة التي أقرها قانون 1905 ، و لا تهتم لا بالسفور و لا بالحجاب ، سواء في المؤسسات التعليمية أو في غيرها . غير أن قانون الحظر و إن اتشح بمبررات تظهر عكس ما تبطن كان إعلانا عن انحياز الجمهورية الفرنسية لهويتها ، و ليس لعلمانيتها كما تذهب حججهم في هذا الإطار و نستكمل الحديث غدا إن شاء الله [email protected]