تنازع الفقهاء الدستوريون وأصحاب التيارات السياسية في مسألة السيادة لمن؟. فمنهم من يرى أن السيادة للشعب وأن الأمة مصدر السلطات، ومنهم من يرى أن السيادة والسلطان للشرع أي لله تعالى. وحينما نتتبع أصل نظرية السيادة نجدها نشأت في فرنسا أثناء فترة الكفاح ضد الملوك في العصور الوسطى لأجل التحلل من سيطرة الأباطرة والبابوات الذين كانوا يبسطون نفوذهم على الملوك، وكان النظام الكنسي لديهم يركز السلطة العليا باسم الإله في يد البابا، وكان الأباطرة في بلاد الرومان لا يتولون عرش الإمبراطور إلا بعد مباركة البابوات الذين بلغوا من القوة والسلطان ما وصل بهم إلى حد الاستبداد، فاحرقوا كتب المفكرين، وأعدموا كل من يعارض صكوك الغفران. فنادى المفكرون الفرنسيون بنظرية السيادة للتخلص من سيطرة الأباطرة والبابوات ومشاركة الملوك في سلطانهم، فنادوا بأن الأمة هي صاحبة السيادة بدلا من الملك، فصارت تلك النظرية أحد معاول الهدم للملكية المطلقة. وظهرت سلبيات نظرية السيادة حينما تم إسنادها للجمعية الوطنية التي كانت وليدة الثورة ووضعت دستورها عام 1791م، وقد أقرت تلك الجمعية نظام الانتخاب المقيد. بأن يكون لدى المنتخب نصاب مالي وقدرة على التعبير عن إرادة الأمة، حتى بلغ عدد الناخبين من جميع أفراد الشعب ستة عشر ونصف في المائة. فنشأت ديكتاتورية جديدة هي ديكتاتورية الهيئات والأحزاب. فقد اتخذت تلك الجمعية من الإجراءات الاستبدادية ما لا يوجد له مثيل في تاريخ الملوك والقياصرة المستبدين، وارتكبت هذا الاستبداد باسم الأمة، وتحت الرعاية لمبدأ سيادة الأمة. وما النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي السابق عنا ببعيد. فمبدأ سيادة الأمة لا يكفل الحرية ولا يحول دون الاستبداد. وصاحب السيادة إرادته نافذة ومشروعة، لا لسبب، إلا لأن هذه الإرادة صادرة منه. تماما كما كان في العهد الملكي، فيقال: ينفذ الأمر لأنه صادر من صاحب السيادة، أو لأنه صادر بقرار جمهوري، أي نظرا لمصدر القرار فحسب، لا لفحواه ولا لمطابقته لقواعد الحق والعدل. فكل ما تم فعله هو نقل نظرية الحق الإلهي من الملوك إلى الشعب، وكأن الشعب صار معصوما من الخطأ. فكم من الزعماء، وكم من الأحزاب ذات الأغلبية الحاكمة مارست الاستبداد ضد خصوم الحزب، لذلك يجب عدم تركيز السلطة في يد فرد واحد أو هيئة واحدة، سواء كانت برلمانا أو حزبا أو مجلس رئاسة. فالأغلبية التي تقوم بمهمة الحكم في الدول الديمقراطية تخضع في الواقع لعدد ضئيل من الزعماء، وأحيانا لزعيم واحد. بحيث نجد أن القانون لا يعبر في الواقع عن إرادة أغلبية النواب، وإنما يعبر عن إرادة الزعيم أو الحزب. إذا مبدأ سيادة الأمة لا يكفل الحرية ولا يمنع الاستبداد. فالذين ينادون بسيادة الأمة ويتخوفون من سيادة الشرع متأثرون بالفكر الفلسفي الغربي الذي رفض الدين لكونه كان يمثل عائقا من عوائق الفكر والنظر والتحضر، فنقلوا تلك الفكرة من محيطها الغربي إلى المحيط الإسلامي وهذا هو الخطأ الفادح الذي سقطوا فيه. فإذا كان الدين في الغرب كان يمنع الفكر والنظر، فإن الإسلام يحث عليهما منذ أول أمر. قال تعالى:" اقرأ باسم ربك الذي خلق" وقوله سبحانه:" قل انظروا ماذا في السماوات والأرض" وقوله تعالى:"ن والقلم وما يسطرون". فالمتخوفون من كون الإسلام مرجعية للتشريع السياسي لم يفهموا مقاصد الأحكام الشرعية ومراميها. فالغرب رفض الدين مرجعية لكونه استٌخدم للاستبداد السياسي وغيره، أما الإسلام فلا مجال فيه للاستبداد، لأن السيادة فيه لله تعالى، وليس معنى ذلك أن يستبد الحاكم باسم الألوهية كما حدث في الغرب قديما فالسيادة في الإسلام تجمع بين سيادة الشرع وسيادة الأمة. فالسيادة أصلها من الله تعالى، فهو سبحانه مالك الملك " يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء" وخلق الإنسان واستعمره في الأرض :" هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" واستخلف الإنسان في الحكم. " إني جاعل في الأرض خليفة" لكنه سبحانه لا يمنح السيادة لفرد أو لهيئة، وإنما يمنحها لجمهور الشعب حينما قال سبحانه:" وأمرهم شورى بينهم"، فكون السيادة لله تعالى في المجتمع الإسلامي، فإن ذلك لا يمثل مشكلة من المشاكل، لأن الحكام والمحكومين جميعا ملتزمون بأوامر الله. فالشريعة تسودهم جميعا. كما أن الذي يحدد الرئيس هو الأمة، ولها حق نصحه وتوجيهه ومعارضته وعزله إن استبد أو خرج عن شرع الله أو عطل أحكام الشريعة. فالحاكم يطبق أو ينفذ سيادة الله تعالى على المحكومين، وتلك ميزة من مزايا الحكم تؤدي إلى ثباته واستقراره. فحينما تدرك الأمة أن تغيير شكل الحكومة لن يؤثر على نظمها الأساسية التي يجب على الجميع احترامها، فإنها تنطلق في معترك الحياة مطمئنة لمستقبلها وهي واثقة الخطى. فدولة الإسلام تقوم على مبادئ الحرية والعدل والمساواة والشورى والأمن وسيادة القانون واحترام الحقوق، ولا تقوم على الإرهاب الديني الذي كان يمارسه الحكام الثيوقراطيون (الإلهيون) في الغرب. وإذا كنا نقول بسيادة الشرع، فإن ذلك لا يعني إقصاء من يرفض ذلك أو يتخوف منه، أو من لا علم له بالشرع. فالسياسة وتطبيقات الحكم مساحتهما واسعة تسع اجتهادات أهل الخبرة والعلم والشرع معا. ولا يستطيع من ينادون بسيادة الشرع أن يمتلكوا تلك المساحة وحدهم، وإنما عليهم أن يفسحوا المجال للآخرين للاستفادة من علومهم وخبراتهم في مجال الحكم والسياسة. فالإسلام لم يأت بكل تفاصيل السياسة، وإنما جاء بمبادئ عامة لنظام الحكم في الدولة، كالشورى والحرية والعدالة والمساواة وغيرها مما يتعلق بنظام الحكم. وتتميز تلك المبادئ باتساعها وعموميتها ومرونتها، مما يجعل صورتها ومضمونها يتشكل تبعا لمختلف البيئات في مختلف العصور. فلم يعرض الإسلام للتفصيلات والجزئيات؛ ليترك للناس الحرية في تطبيق ما يناسبهم. فأمور السياسة ليست في جوهرها مسائل دينية أو فقهية يُترك أمر بيانها وتقديرها للفقهاء وحدهم، بل معهم أهل الخبرة أيضا الذين هم أهل الذكر " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" فهي مسائل اجتماعية سياسية يختلف فيها أهل الرأي باختلاف الزمان والمكان، ثم هي تتعلق بجزئيات وتفصيلات لا يجوز أن توضع بصددها أحكام عامة باسم الإسلام كما يفعل البعض من الفقهاء والباحثين. والله تعالى أعلم.